عرض مشاركة واحدة
قديم 10-21-2011, 11:13 AM   #2
السيد عباس ابو الحسن
المشرف العام


الصورة الرمزية السيد عباس ابو الحسن
السيد عباس ابو الحسن غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 11
 تاريخ التسجيل :  May 2010
 أخر زيارة : 11-30-2012 (04:20 PM)
 المشاركات : 735 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي



ثانيًا- العدول في حروف العطف :

لحروف العطف أهمية كبيرة في أداء وظيفة الربط في الجملة العربية ، وتضفي هذه الحروف دلالات خاصة يكشف عنها السياق الواردة فيه ، وقد قرر علماء اللغة أن لكل حرف دلالة عامة تختص به ، فقرروا أن ( الواو ) يرد لمطلق الجمع . يقول سيبويه(10) :« قولك : مررتُ بعمروٍ وزيد . وإنما جئت بالواو ؛ لتضم الآخر إلى الأول وتجمعهما ، وليس فيه دليل على أنَّ أحدهما قبل الآخر » .
يقول الرضي في شرح الكافية(11) :« فقوله فالواو للجمع مطلقًا ) ، معنى المطلق : أنه يحتمل أن يكون حصل من كليهما في زمان واحد ، وأن يكون حصل من زيد أولاً ، وأن يكون حصل من عمرو أولاً ، فهذه ثلاثة احتمالات عقلية ، لا دليل في الواو على شيء منها . هذا مذهب جميع البصريين والكوفيين » .
وذكروا أيضًا أن ( الفاء ) تفيد الترتيب والتعقيب يقول سيبويه(12) ، في معرض التمييز بين الواو والفاء :« و( الفاء ) ، وهي تضم الشيء إلى الشيء ؛ كما فعلت ( الواو ) ، غير أنها تجعل ذلك متَّسقًا بعضه في إثر بعض ؛ وذلك قولك : مررتُ بعمروٍ فزيدٍ فخالدٍ . وسقط المطر بمكان كذا وكذا ، فمكان كذا وكذا ؛ وإنما يقرو(13) أحدهما بعد الآخر » .
وأما ( ثَمَّ ) فقد ذكروا أنها تفيد الترتيب مع التراخي . يقول المرادي(14) :« ثم حرف عطف يشرك في الحكم ، ويفيد الترتيب بمهلة ؛ فإذا قلت : قام زيد ثم عمرو ، آذنت بأن الثاني بعد الأول بمهلة » .
وقد علل السهيلي دلالة التراخي في ( ثم ) من دلالة اشتقاقها فقال(15) :« لا غرو أن يتقارب معنى الحرف من معنى الاسم المشتق المتمكن في الكلام ؛ فهذه ( ثم ) حرف عطف ، ولفظها كلفظ ( الثَّم ). والثَّمُ هو رمُّ الشيء يعضه إلى بعض … وأصله من ثمَمْتُ البيتَ ، إذا كانت فيه فُرَج فَسُدَّ بالثَّمَام(16) .
وقال الشاعر :
وَأَمَّا الرِّيَاحُ فقد غَادَرَتْ ** رَواكدَ واستَمْتَعتْ بالثُمام
والمعنى الذي في ( ثُمَّ ) العاطفة قريب من هذا ؛ لأنه ضمّ الشيء إلى شيء ، بينهما مهلة ؛ كما أن ثَمَّ البيت : ضَمُّ بين شيئين بينهما فرجة » .
فامتازت ( ثم ) عن ( الواو ) بالترتيب والمهلة ، وعن ( الفاء ) بالتراخي في الزمن . يقول سيبويه- مفرقًا بين هذه الأحرف الثلاثة(17) :« فإذا قلت : مررتُ برجل راكب وذاهب ، استحقهما ، لا لأن الركوب قبل الذهاب . ومنه : مررتُّ برجل راكب فذاهب ، استحقهما ؛ إلا أنه بَيَّنَ أن الذهاب بعد الركوب ، وأنه لا مهلة بينهما ، وجعله متصلاً به . ومنه : مررتُ برجل راكب ثم ذاهب ، فبيَّنَ أن الذهاب بعده ، وأن بينهما مهلة ، وجعله غير متصل به ، فصَّيَره على حِدَة » .
والذي يهمنا في هذا الموضع هو المخالفة والمغايرة الحاصلة بين حروف العطف في السياق القرآني ، والدلالات التي تنتج عن هذا العدول ، وسيكون تناولنا للعدول في حروف العطف مقتصرًا على أهمها وأكثرها ورودًا في التعبير القرآني ؛ وهي ( الواو ) ، و( الفاء ) ، و( ثم ) ؛ وذلك لكثرة ورود العدول بين هذه الحروف ، مما يدعو ذلك إلى التأمل في أسراره ، وما يحققه من دلالات تكشف عن جوانب الإعجاز في هذا القرآن .
ويتمثل العدول في هذه الحروف على النحو الآتي :
1- العدول عن ( الواو ) إلى ( الفاء ) ، والعكس :
من ذلك قوله تعالى :﴿ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ﴾[ النازعات: 1- 5] . فقد عدل هذا السياق عن ( الواو ) في قوله :﴿ وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً ﴾ إلى ( الفاء ) في قولـه :﴿ فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ﴾ . ولو اطرد السياق على نمط واحد ، لكانت :( والسابقات سبقًا ، والمدبرات أمرًا ) .
ويمكننا فهم سر هذا العدول من تعليق الزمخشري على ذلك بقوله(18) :« أقسم سبحانه وتعالى بطوائف من الملائكة تنزع الأرواح من الأجساد ، وبالطوائف التي تنشطها . أي : تخرجها من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها ، وبالطوائف التي تسبح في مضيها . أي : تسرع فتسبق إلى ما أمروا به ، فتدبر أمرًا من أمور العباد » .
فالذي نفهمه من كلام الزمخشري أن الملائكة في اختصاصها ووظائفها على طوائف ؛ فمنها طوائف تنزع الأرواح من الأجساد ، وطوائف تخرجها ، وأخرى تسبح في مضيها ؛ لتنفيذ ما أمرت به . وهذه الأخيرة وقف عندها القرآن بالوصف ، فوصفها بأنها تسبح فتسبق فتدبِّر ؛ فهي طائفة توصف بثلاث صفات متتابعة ؛ وهي : السبح والسبق والتدبير ؛ لذلك عطف بين صفاتها هذه بـ( الفاء ) ، وعطف بين ذوات هذه الطوائف المختلفة بـ( الواو ) .
فكانت ( الواو )- في هذا السياق- لعطف الذوات ، و( الفاء ) لعطف الصفات ، فدل العدول عن ( الواو ) إلى ( الفاء ) أن هذه الطائفة من الملائكة هي طائفة واحدة ، تتصف بصفات متعدِّدة ، لا طوائف مختلفة ؛ وإنما دلت ( الفاء ) هنا على تعاقب هذه الصفات وتتابعها .
وهو ما يرد أيضًا في قوله تعالى :﴿ وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً * وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً * فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً * فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً ﴾[المرسلات: 1- 5] ؛ إذ جاء العدول عن ( الفاء ) في قوله تعالى :﴿ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً ﴾ إلى ( الواو ) في قولـه تعالى :﴿ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً ﴾ ؛ ليفرق بين طائفتين من الملائكة، فما قبل ( الواو ) يمثل طائفة مستقلة في الملائكة مهمتها الإرسال والعصف ، وطائفة أخرى جاء ذكرها بعد ( الواو ) مهمتها النشر والفرق وإلقاء الذكر . وهو ما أوضحه الزمخشري(19)بقوله :« أقسم سبحانه بطوائف من الملائكة أرسلهن بأوامره ، فعصفن في مضيهن ؛ كما تعصف الرياح تخففًا في امتثال أمره ، وبطوائف منهم نشرن أجنحتهن في الجو عند انحطاطهن بالوحي ، أو نشرن الشرائع في الأرض ، أو نشرن النفوس الموتى بالكفر والجهل بما أوحين ، ففرقن بين الحق والباطل فألقين ذكرًا إلى الأنبياء » .
ويزيد الألوسي الأمر إفصاحًا ، فيقول(20) :« وعَطفُ الناشرات على ما قبل ( الواو ) ظاهرٌ للتغاير بالذات بينهما ، وعطف العاصفات على المرسلات ، والفارقات على الناشرات ، وكذا ما بعد ( الفاء ) ؛ لتنزيل تغاير الصفات منزلة تغاير الذات » ، فدل هذا على أن الصفات المعطوفة بـ( الفاء ) تكون لموصوف واحد(21) .
2- العدول عن ( الواو ) إلى ( ثم ) ، والعكس :

من ذلك قوله تعالى:﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ [الشعراء: 63- 66] . فقد جاء السياق على هذا النحو :﴿ وَأَزْلَفْنَا … وَأَنجَيْنَا ثُمَّ أَغْرَقْنَا ، فعدل عن ( الواو ) إلى ( ثم ) .
فما دلالة ( ثم ) هنا ؟ وهل هناك تراخٍ زمني بين إنجاء المولى عز وجل موسى ومن معه ، وبين إغراق فرعون وقومه ؟ ولماذا لم يقل :﴿ وَأَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ؛ كما هو الحال في قولـه تعالى :﴿ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴾[البقرة: 50] ، فأتى بـ( الواو ) في قوله :﴿ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ ؟
ويرى الباحث أن سياق المقام هو الذي يقتضي حرف عطف معين لدلالة معينة ؛ فالسياق في سورة الشعراء سياق تدرج في النعم ، فالنعمة الحاصلة من إغراق فرعون وجنده أعظم من سابقتها ، وهي إنجاء الفئة المؤمنة ، فأفادت ( ثم ) التراخي الرتبي ، لا الزمني ؛ وذلك أن سياق سورة الشعراء يذكر تكبر فرعون وإعراضه وظلمه . قال تعالى :﴿ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ﴾[الشعراء: 53- 58] .
فالسياق مركز على فرعون وجنده ، فكانت الإشارة بـ( ثم ) في الإغراق للدلالة على عظم هذه النعمة ، وإبراز عظم القدرة في أخذ فرعون وجنده . بينما كان السياق في سورة البقرة ، سياق تعديد نعم فحسب ، فقال تعالى :﴿ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴾[البقرة: 50] . وكذلك أنه ليس لفرعون وجنده ظهور على مسرح الأحداث هناك ؛ كما هو الحال في سورة الشعراء ، فأدى الاختلاف في المقال إلى اختلاف نظم الكلام تبعًا له .
ومن ذلك أيضًا قوله تعالى مخاطبًا المؤمنين :﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ [التوبة: 25] . فقد عدل السياق عن( الواو ) إلى( ثم ) ، فقال :﴿ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ، ولم يقل :( وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَوَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ) ؛ ليصور الحالة النفسية التي انتابت المسلمين في حنين عند هزيمتهم ؛ إذ صورت ( ثم ) شدة وطأة الزمن ، واستطالته في ذلك الموقف العصيب الذي أصابتهم فيه الدهشة والحيرة والاضطراب ، ﴿ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ . ولو أتى ( بالواو ) ، لما أفاد تلك الدلالة(22) .
ومنه أيضًا في قوله تعالى على لسان نبيه نوح عليه السلام :﴿ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ ﴾[يونس: 71] . ونلحظ في هذا السياق القرآني نبرة التحدي ظاهرة بارزة على لسان نبي الله نوح عليه السلام ، في مخاطبة قومه الذين أعرضوا عن دعوة الله عز وجل ، فدعاهم إلى أن يتَّحدوا هم وشركاؤهم ضدَّه للفتك به ، وأمهلهم بأن يتدبَّروا أمرهم علانية على الملأ لا غمة فيه ، ثم أمهلهم أخرى في إعداد عُددهم وعدَّتهم للفتك به والقضاء عليه . فإذا تسنى لهم ذلك فليقضوا عليه دون أي إنظار منهم له أو إمهال ، فدل العدول إلى ( الواو ) على نفي وجود أدنى زمن للمهلة والإنظار . وفي ذلك إمعان في التحدي لهم ، وعدم المبالاة بهم ، وعظم ثقته بالله عز وجل . ولو اطرد السياق بـ( ثم ) لما كان فيه من الدلالة على ذلك ما ذكر .
3- العدول عن ( الفاء ) إلى ( ثم ) ، والعكس :
من ذلك قوله تعالى:﴿ قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ [هود: 53- 55] . فعطف طلب الكيد بـ( الفاء ) وعدم الإنظار بـ( ثم ) .
وجاء على العكس من ذلك في تحدي الرسول صلى الله عليه [وآله]وسلم للمشركين ؛ وذلك في قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ [الأعراف: 191-195] . فعطف طلب الكيد بـ( ثم ) ، وعدم الإنظار بـ( الفاء ) .
والذي يبدو- والله أعلم- أن سياق سورة الأعراف فيه تسفيه لهذه الأصنام التي اتخذوها أندادًا من دون الله عز وجل ، ثم ارتفعت نبرة التحدي في الخطاب ، فوجه الله عز وجل الأمر لنبيه صلى الله عليه [وآله]وسلم أن يتحدَّى المشركين بأن يدعو هؤلاء الشركاء ، ويتضامنوا معهم في الكيد له ، و« أمهلهم من الزمن ما يتيح لهم فرصة الاستعداد والاحتشاد لـه ، فعطف الأمر بالكيد على الأمر بدعوة شركائهم بحرف المهلة ؛ إمعانًا في الاستهانة بالشركاء ، وعدم مبالاة بكيدهم ، وجاء عطف عدم الإنظار بـ( الفاء ) ؛ إغراقًا في التحدي والاستهانة حين لا يطلب لنفسه نفس المهلة للرد على كيدهم »(23) ، فطلب معاجلتهم بالقضاء عليه ، والإيقاع به ، وفي ذلك من الاحتقار لهم والتهكم بهم ما فيه .
أما في سورة هود فقد ادعى قوم هود أن آلهتهم المزعومة قد مست هود بسوء ، وأنها تضر وتنفع ، فعندئذ باشرهم بالتحدي السريع دون مهلة ؛ لأنهم « ما داموا يثبتون لآلهتهم هذه القدرة على إنزال الضُّرِّ به . فليس بحاجة إلى أن يطلب منهم دعوتها ، وإمهالهم لحشد قواهم ، فهم قد بدأو حربه بالفعل ، فطلب منهم التعجيل بالكيد له والقضاء عليه ، فأدخل ( الفاء ) على الأمر بالكيد ؛ لتدل على طلب المبادرة به »(24) .
ثم عدل بعد ذلك إلى ( ثم ) ؛ ليعطي لهم ولآلهتهم المزعومة مهلة طويلة من الزمن ، حتى يبلغوا في الكيد غايته . وقد أثبتت الياء في ( فيكيدوني ) ؛ لتطيل زمن النطق بالكلمة مع طول النطق بـ( ثم ) ، فيتسق طول النطق في التعبير مع طول الزمن في الإمهال »(25) .
ثم « إنهم ذكروا أن آلهتهم اعترته بسوء ، فكانت نبرة التحدي لديه أشد وآكد ، فتحدى الجميع بقولـه :﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ، ثم أظهر نفسه في التحدي ؛ وذلك بإثبات الياء ، زيادة في التحدي لهم والظهور »(26) .
ومنه قولـه تعالى :﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ﴾[المدثر: 18- 25] .
نجد هذا السياق القرآني العجيب قد مضى في اطراد في تكرار ( ثم ) ، فقال :﴿ ثُمَّ قُتِلَ .. ثُمَّ نَظَرَ .. ثُمَّ عَبَسَ .. ثُمَّ أَدْبَرَ .. فَقَالَ .. . ثم عدل عن ( ثم ) إلى ( الفاء ) فجأة في قوله بعد ذلك :﴿ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾ . ولم يطرد السياق ، فيكون :( ثم قال : إن هذا إلا سحر يؤثر ) .
وعندما نمعن النظر في هذا السياق نجد أن حرف التراخي ( ثم ) قد صور لنا أبلغ تصوير حالة الصراع النفسي الذي عاشه الوليد بن المغيرة الذي نزلت في شأنه هذه الآيات ، وكيف أنه أجال التفكير في شأن القرآن وأعوزته الحيلة بعد مهلة من الزمن وتريث ، فلم يجد ما يعيب به القرآن ، ثم بعد ذلك كله سارع إلى إلقاء كلمة مفتراة في وصف هذا القرآن العظيم بقوله :﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ . فدلت ( الفاء ) في قوله :﴿ فَقَالَ إِنْ هَذَا .. ﴾ على أن هذا القول قد صدر منه دون إعمال نظر ، أو فكر في المقول ، فلم يقل ما قاله عن قناعة ويقين ؛ وكأنها كلمة ألقاها على عجل ، ووّلى هاربًا مدبرًا من شدَّة الهزيمة النفسية التي حلت به(27) . ولو اطرد هذا السياق القرآني فكان :( ثم قال : إن هذا إلا سحر يؤثر ) ، لدل على أن هذا القول قد قاله بعد إعمال فكر وتريث ، ونظر واعتقاد ويقين ، وليس الأمر كذلك .
ومنه أيضًا قوله تعالى :﴿ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ﴾[طه: 20] . فقد جاء التعبير- في هذا السياق- عن تولي فرعون ، وجمعه الجموع والحشود والأعوان وكل ما يستطيعه من كيد ، بحرف العطف( الفاء ) ، فقال :﴿ فَتَوَلَّى .. فَجَمَعَ .. ﴾ ، ثم عدل في التعبير عن إتيان فرعون ومواجهته موسى عليه السلام إلى حرف التراخي ( ثم ) ، حيث قال :﴿ ثُمَّ أَتَى ﴾ .
وكان مقتضى السياق أن يكون :( فتولى فرعون ، فجمع كيده ، فأتى ) ، لا سيما أن جمع الناس وحشدهم والإعداد للمواجهة يحتاج إلى مهلة من الزمن ، في حين أن الإتيان بعد ذلك هو أيسر وأسهل ، وكان التعبير في هذا السياق يقتضي العكس ، بأن يقول :( ثم جمع كيده فأتى ) ، فمثل التعبير في هذا السياق خروجًا عن مقتضى الظاهر ؛ وذلك لدلالة نفسية عميقة يوحي بها هذا السياق ، مفادها أن الجمع كان أهون على فرعون من مواجهة موسى عليه السلام ، فدلت ( الفاء ) في قوله :﴿ فَجَمَعَ ﴾ إلى سرعة تحقق الجمع له وحشد الناس ؛ لكونه ملكًا جبارًا يخشى سطوته الجميع ، فأمره بالجمع نافذ وسريع ، وهو مع هذا كله يعيش هزيمة نفسية كبيرة في داخله من مواجهة موسى عليه السلام ، فهو يقدم رجلاً ، ويؤخر أخرى ؛ لذا عبَّر القرآن عن هذه الهزيمة النفسية بحرف التراخي ( ثم ) بقوله :﴿ ثُمَّ أَتَى ﴾ .
وإلى هذه النكتة في العدول أشار أبو السعود بقوله(28):« وفي كلمة التراخي إيحاء إلى أنه لم يسارع إليه ؛ بل أتاه بعد لأي وتلعثم » . وهو ما سرى في نفوس قوم فرعون وأعوانه أيضًا في قولهم :﴿ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً ﴾[طه: 64] ، « وكأني بهم ، وهم يطيلون زمن النطق بـ( ثم ) قبل الدعوة إلى لقائه ، يستهلكون الوقت ، ويتهربون من المواجهة ، ويتمنون ألا تكون »(29) .


 
 توقيع : السيد عباس ابو الحسن

يــــا لـثارات الـــزهــــــراء








رد مع اقتباس