هذه الرسالة تفيد بأنك غير مسجل في :: منتديات ثار الله الإسلامي :: . للتسجيل الرجاء اضغط هنـا

facebook

.::||[ آخر المشاركات ]||::.
دورة : التوظيف والتعيين والإست... [ الكاتب : فاطمة كريم - آخر الردود : فاطمة كريم - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 80 ]       »     دورة : مهارات التخطيط المالي و... [ الكاتب : فاطمة كريم - آخر الردود : فاطمة كريم - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 63 ]       »     دورة : اساسيات التأمين [ الكاتب : فاطمة كريم - آخر الردود : فاطمة كريم - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 75 ]       »     دورة : تحليل البيانات والقوائم... [ الكاتب : فاطمة كريم - آخر الردود : فاطمة كريم - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 73 ]       »     دورة : السلامة والصحة المهنية ... [ الكاتب : فاطمة كريم - آخر الردود : فاطمة كريم - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 70 ]       »     دورة : آليات الرقابة الحديثة و... [ الكاتب : فاطمة كريم - آخر الردود : فاطمة كريم - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 112 ]       »     دورة : تكنولوجيا التميز والإبد... [ الكاتب : فاطمة كريم - آخر الردود : فاطمة كريم - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 97 ]       »     دورة : القيادة عالية الإنجاز و... [ الكاتب : فاطمة كريم - آخر الردود : فاطمة كريم - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 102 ]       »     دورة : فنون العرض والتقديم وال... [ الكاتب : فاطمة كريم - آخر الردود : فاطمة كريم - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 102 ]       »     دورة : الإدارة الفعالة للمختبر... [ الكاتب : فاطمة كريم - آخر الردود : فاطمة كريم - عدد الردود : 0 - عدد المشاهدات : 103 ]       »    



 
 عدد الضغطات  : 7851  
 عدد الضغطات  : 2944  
 عدد الضغطات  : 4873


الإهداءات



يتم تحميل بيانات الشريط . . . . اذا لم تظهر البيانات رجاء قم بتحديث الصفحة مرة اخرى
إضافة رد
#1  
قديم 10-21-2011, 11:11 AM
السيد عباس ابو الحسن
المشرف العام
السيد عباس ابو الحسن غير متواجد حالياً
لوني المفضل Cadetblue
 رقم العضوية : 11
 تاريخ التسجيل : May 2010
 فترة الأقامة : 5056 يوم
 أخر زيارة : 11-30-2012 (04:20 PM)
 المشاركات : 735 [ + ]
 التقييم : 10
بيانات اضافيه [ + ]
افتراضي العدولُ في حروف المعاني[وآله]



العدولُ في حروف المعاني




مظهر من مظاهر الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم
د/ عبد الله علي الهتاري
أستاذ مساعد بكلية الآداب والألسن/ قسم اللغة العربية
جامعة ذمار/ اليمن
اللافت للنظر في التعبير القرآني دقته في تناول حروف المعاني والمغايرة بينها ؛ إذ نجده يستعمل الحرف لدلالة مقصودة في السياق ، ثم يعدل عنه إلى حرف آخر في السياق نفسه ، مما يدعو ذلك إلى التدبر وإعمال الفهم لإدراك ما وراء هذا العدول من مقاصد ودلالات . ويصعب في هذا المبحث تناول كل مواطن هذا العدول لكثرته وسعته ، وتكفي الإشارة إلى بعض صوره ونماذجه وفق التقسيم الآتي :
أولاً- العدول في حروف الجر :
يبرز هذا العدول من خلال المغايرة في حروف الجر في السياق القرآني وذلك بمجيء بعض الأفعال متعديًا بحرف ، ثم العدول عنه إلى حرف آخر في السياق نفسه ، وكذلك المغايرة لهذه الحروف في تعالقها بالأسماء في السياق نفسه . وهذه المخالفة في تعالق الأسماء والأفعال بالحروف في السياق توحى بدلالات تهمس بها هذه الحروف حينًا وتفصح عنها حيناً آخر ، وهي من الدقائق الداعية لإعمال الفكر والفهم العميق في تتبعها ومعرفة سر العدول فيها ؛ فمن تلك المواطن لهذا النوع من العدول :
1- العدول عن ( على ) إلى ( في ) :
من ذلك قوله تعالى :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [سبأ: 24] ، فقد ذكر مع الهدى حرف الجر ( على ) ، فقال :﴿ لَعَلَى هُدًى ، ثم عدل عنه إلى ( في ) مع الضلال ، فقال :﴿ أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ . ولو جرى السياق على نسق واحد ، لكان :( لعلى هدى ، أو على ضلال مبين ) . وقد وقف الزمخشري على سر هذا العدول ، فقال(1) :« لأن صاحب الحق كأنه مستعلٍ على فرس جواد يركضه حيث يشاء ، والضال كأنه منغمسٌ في ظلام مرتبكٌ فيه لا يدري أين يتوجه » .
يقول ابن القيم في سياق تفسيره قوله تعالى(2) :﴿ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ :« في أداة ( على ) سر لطيف ؛ وهو الإشعار بكون السالك على هذا الصراط ، على هدى ، وهو حق ؛ كما قال في حق المؤمنين :﴿ أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ [البقرة: 5]. وقال لرسول الله صلى الله عليه [وآله]وسلم :﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ﴾[النمل: 79] ، والله عز وجل هو الحق ، وصراطه حق ، ودينه حق ، فمن استقام على صراطه ، فهو الحق والهدى ؛ فكان في أداة ( على ) على هذا المعنى ، ما ليس في أداة ( إلى ) ، فتأمله فإنه سر بديع ! » .
واستطرد ابن القيم قائلاً :« فإن قلت : فما الفائدة في ذكر ( على ) في ذلك أيضًا ، وكيف يكون المؤمن مستعليًا على الحق وعلى الهدى ؟ قلت : لما فيه من استعلائه وعلوه بالحق والهدى ، مع ثباته عليه ، واستقامته إليه ، فكان في الإتيان بأداة ( على ) ما يدل على علوه وثبوته واستقامته . وهذا بخلاف الضلال والريب ؛ فإنه يؤتى فيه بأداة ( في ) الدالة على انغماس صاحبه وانقماعه وتدسسه فيه ؛ كقوله تعالى :﴿ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [التوبة: 45] ، وقوله :﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ ﴾[الأنعام: 39] ، وقولـه :﴿ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ﴾[المؤمنون: 54] ، وقولـه :﴿ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ [هود: 110] .. وتأمل قوله :﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾[سبأ: 24] ، فإن طريق الحق تأخذ علوًا صاعدة بصاحبها إلى العلي الكبير ، وطريق الضلال تأخذ سفلاً هاوية بسالكها في أسفل سافلين » .
ويضاف إلى هذا دلالة السياق وما يفيده من العلو ، في ﴿ لَعَلَى هُدًى ؛ فعلوُّ المكانة والمقام يستوجب علوَّ الإرادة ، ونفاذها واستعلاءها على نوازع التسفل والسقوط ، بإقبالهم على الهدى بمحض اختيارهم ، ويفيد انفساح الرؤية أمام أبصارهم ، فيدركون ما حولهم بوضوح دون حجب أو حواجز ؛ وذلك على النقيض من دلالة التسفل والظرفية في قوله :﴿ أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ ؛ إذ يستتبع ذلك دلالات سلب الإرادة ، وتقييد الحركة ، وانعدام وضوح الرؤية ، وفقدان حرية الفكر ؛ وذلك يؤدي إلى تمزق النفس وتخبطها .
2- العدول عن ( في ) إلى ( على ) :
من ذلك قوله تعالى :﴿ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾[النحل: 45- 47] . نجد في هذا السياق القرآني تعدِّي الفعل ( أخذ ) أولاً بحرف الجر ( في ) في قولـه :﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ ، ثم العدول عنه إلى حرف الجر ( على ) في قوله :﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ؛ لأن إيثار حرف الظرفية مع التقلب قصد به الإدلال على كمال القدرة الإلهية في الوصول بالانتقام إلى من يريد ، مهما بدا للمأخوذ أنه في كمال القدرة والقوة ؛ ذلك أن التقلب يعني حركة الحياة التي أقبل عليها مقترفوا السيئات ، مما يدل على أنهم في كامل صحتّهم وقوتهم ، وكمال سلطانهم وجبروتهم ، وهم في هذه الحال لا يستطيعون أن يفوتوا الله تعالى ويعجزوه هربًا ؛ لذلك ناسب مجيء الفاصلة القرآنية بعدها قوله :﴿ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ ﴾(3) .
وأما العدول إلى ( على ) في قوله :﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ﴾ فإن الاستعلاء فيها يدل على أن الله تعالى زادهم عذابًا فوق عذاب الخوف وآلامه ، وهو بلاء كان قد وقع بهم من قبل ، وأصابهم بأمراض الذعر والقلق وافتقاد الأمن والطمأنينة ، ثم جاء عقابه وأخذهم بما اقترفوه بلاء فوق البلاء ، وعذابًا على عذاب(4) ، فيكون معنى الظرفية في حرف الجر ( في ) قد دّل على كمال قدرة الله في الأخذ والبطش ، وأفاد معنى الاستعلاء في ( على ) الزيادة في التنكيل والعذاب ، فكل حرف قد جاء في موضعه المناسب له ، ولا يمكن أن يحل محله غيره .
وبهذا ندرك أن دلالة حروف الجر ليس في نفسها- كما هو الحال في الأسماء والأفعال- وإنما تكتسب دلالتها من خلال تعالقها بنظم الكلام في السياق ، ويظهر أثر السياق في تخصيص دلالة الحرف وتحديده . فمعنى الاستعلاء في حرف الجر ( على ) قد يفيد في سياق الخير العلو والتفضيل والتشريف ؛ كما هو الحال في قوله تعالى :﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى ﴾[سبأ: 24] ، وفي سياق الأخذ والعذاب ؛ كما هو الحال في قوله تعالى :﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ﴾ ، أفاد شدَّة العذاب وزيادته ، وكذلك حرف الظرفية ( في ) في قوله :﴿ أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾ ، أفاد معنى التسفل والسقوط ؛ لأن السياق سياق ذم وتوبيخ لحالهم ، وقد دلَّ على العكس من ذلك في قوله :﴿ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ (النحل: 46) ؛ إذ دلَّ على كمال القدرة في الأخذ والتعذيب ؛ لأن السياق سياق إبراز قدرة وقوة .
3- العدول عن ( في ) إلى ( الباء ) :
من ذلك قوله تعالى على لسان الملأ من قوم نوح في خطاب نبيهم :﴿ قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴾[الأعراف: 60- 61] . فقد جاء حرف الجر ( في ) في كلام قوم نوح لنبيهم بقولهم :﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ، وهذا الحرف يفيد الظرفية ؛ فكأن الضلال أصبح ظرفًا لـه ، وهو مظروف فيه ، يحيط به من كل مكان ، فردَّ عليهم بقوله :﴿ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ ﴾ ، فعدل في جوابه لهم إلى ( الباء ) ، فلم يوافق جوابه قولهم فيكون :( ليس فيَّ ضلالة ) .
وفي هذا السياق نجد أن جواب نوح عليه السلام قد تضمن عدولين : عدولاً نحويًا متمثلاً في العدول عن حرف الجر ( في ) إلى حرف ( الباء ) . وعدولاً صرفيًا متمثلاً في العدول عن المصدر ( ضلال ) إلى اسم المرة ( ضلالة) ؛ وذلك أن اقتران جوابه بـ( الباء ) فيه إمعان في نفي لصوق أدنى ضلالة به ، فضلاً عن انغماسه في الضلال أصلاً . وهذا يؤكده مجيء اسم المرة ( ضلالة ) ؛ لذا ناسب مجيء جوابه لهم بـ( الباء ) عدولاً عن حرف الوعاء ، « مبالغة في نفي اقترابه من الضلال ، وتلبسه به »(5) ، ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴾[الأعراف: 61] ، وهو ما يرد بكثرة في سياق خطاب الأنبياء لأقوامهم . من ذلك قول قوم هود لنبيهم :﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ ﴾[الأعراف: 66] ، وجاء ردُّه عليهم :﴿ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ ﴾[الأعراف: 67] .
4- العدول عن ( في ) إلى ( من ) :
ومنه قولـه تعالى :﴿ وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً.. وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴾[النساء: 5- 8] . فقد قال ابتداء :﴿ وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا ، فأتى بحرف الجر ( في ) ، ثم عدل عنه إلى حرف الجر ( منه ) ، فقال :﴿ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ ﴾ .
وسر هذا : أن الآية الأولى هي خطاب للأولياء في أموال اليتامى ، بدليل قوله :﴿ وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴾[النساء: 5] ، ﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ …﴾[النساء: 6] ، ففي قوله :﴿ وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا دعوة إلى استثمار أموال اليتامى ، وأن ينفق عليهم من أرباح المال لا من أصله ، وهو ما أشار إليه الزمخشري بقوله(6) :« وارزقوهم فيها : واجعلوها مكانًا لرزقهم بأن تتجروا فيها ، وتتربحوا حتى يكون نفقتهم من الأرباح ، لا من صلب المال ، فلا يأكلها الإنفاق » .
وهذا المعنى ناشئ من تركيب الفعل (فارزقوهم) مع حرف الظرفية ( في ) ، فجعل الأموال ظرفًا للرزق ومكانًا له ، في حين عدل عن ( في ) إلى ( من ) بعد ذلك في قوله :﴿ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ ﴾[النساء: 8] ؛ لأن المدفوع لذوي القربى واليتامى والمساكين حال حضورهم القسمة هو من أصل مال التركة ، فجاءت ( من ) التبعيضية للدلالة على إعطائهم من بعض الميراث على سبيل المواساة والإحسان .
5- العدول عن ( من ) إلى ( في ) :
من ذلك قوله تعالى:﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ … وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾[ [النحل: 84- 89] . فعدَّى الفعل ( نبعث) بـ( من ) في قوله :﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ ﴾ ، ثم عدل عنه إلى ( في ) في قوله :﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ ﴾ .
وهنا ينشأ السؤال الآتي : لماذا لم يطرد السياق ، فيكون :( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً … وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم ) ؟‍ أشار السيوطي(7) إلى أن ( في ) هنا بمعنى :( من ) . فقوله :﴿ فِي كُلِّ أُمَّةٍ ﴾ . أي :( من كل أمة ) ، ويكون قولـه حينئذ :﴿ مِّنْ أَنفُسِهِمْ ﴾ تكرارًا له .
ويرى الباحث أن القول بتناوب الحروف خروج عن تذوق البيان ، ومعرفة إعجاز القرآن . والذي يظهر- والله أعلم- أن هذا السياق القرآني يقرر الشهادة على مرحلتين : الأولى : مرحلة بعث الشهداء من أممهم ؛ فمن كل أمة يخرج الله شهيدًا منها ، وهذه مرحلة بعث وإخراج فقط . ثم تأتي المرحلة الأخرى والأهم ؛ وهي مرحلة إدلاء الشهادة ، فيدلي كل شهيد على وجه الخصوص بشهادته على أمته . والشهداء هم الرسل والأنبياء ؛ لذا كانت هذه المرحلة أشد من سابقتها على الشهداء والمشهود عليهم ؛ لأنها إدلاء بالشهادة وتقرير بحكم ؛ لذلك ناسب فيها التأكيد والإطناب في تفصيل جنس هؤلاء الشهداء فهم ﴿ فِي كُلِّ أُمَّةٍ ﴾ ، فأفاد حرف الجر ( في ) الظرفية والمخالطة والانغماس . فكل شهيد من هؤلاء قد خبر قومه وعرفهم وخالطهم فهو منهم ، وفيهم قد عاش ودرج ، فكانت ( في ) أدل على هذا المعنى من غيرها .
وأمعن السياق القرآني في تأكيد الشهادة ، وأنها شهادة إدلاء بقولـه أيضًا :﴿ شَهِيداً عَلَيْهِم ﴾ ، وقولـه أيضًا :﴿ مِّنْ أَنفُسِهِمْ ﴾ ، في حين لم يذكر ذلك في الآية السابقة ؛ إذ اكتفى بالقول :﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ﴾ ، فحسب .
ومنه قوله تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [النحل: 10] . وكان يقتضي السياق أن يطرد على نسق واحد فيقول :( منه تسميون ) ؛ لكنه عدل عن ( من ) إلى ( في ) لدلالة أوضحها ابن عاشور بقوله(8) :« والشّجر : يطلق على النبات ذي الساق الصلبة ، ويطلق على مطلق العشب والكلأ تغليبًا ، وروعي هذا التغليب هنا ؛ لأنه غالب مرعى أنعام أهل الحجاز ؛ لقلة الكلأ في أرضهم ، فهم يرعون الشعاري والغابات ، وفي حديث ضَالَّةُ الإِبلِ تَشْرَبُ الماءَ وترعى الشَّجَرَ حتى يأتيَها ربُّها “(9) . ومن الدقائق البلاغية الإتيان بحرف ( في ) الظرفية ، فالإسامة فيه تكون بالأكل منه ، والأكل مما تحته من العشب » .
وقد فهم ابن عاشور هذا المعنى الدقيق لحرف الجر ( في ) من معرفته بحياة بادية الحجاز التي تنزل فيها القرآن ، فجاء المقال موافقًا تمام الموافقة لمقتضى الحال .



 توقيع : السيد عباس ابو الحسن

يــــا لـثارات الـــزهــــــراء







رد مع اقتباس
قديم 10-21-2011, 11:13 AM   #2
السيد عباس ابو الحسن
المشرف العام


الصورة الرمزية السيد عباس ابو الحسن
السيد عباس ابو الحسن غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 11
 تاريخ التسجيل :  May 2010
 أخر زيارة : 11-30-2012 (04:20 PM)
 المشاركات : 735 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي



ثانيًا- العدول في حروف العطف :

لحروف العطف أهمية كبيرة في أداء وظيفة الربط في الجملة العربية ، وتضفي هذه الحروف دلالات خاصة يكشف عنها السياق الواردة فيه ، وقد قرر علماء اللغة أن لكل حرف دلالة عامة تختص به ، فقرروا أن ( الواو ) يرد لمطلق الجمع . يقول سيبويه(10) :« قولك : مررتُ بعمروٍ وزيد . وإنما جئت بالواو ؛ لتضم الآخر إلى الأول وتجمعهما ، وليس فيه دليل على أنَّ أحدهما قبل الآخر » .
يقول الرضي في شرح الكافية(11) :« فقوله فالواو للجمع مطلقًا ) ، معنى المطلق : أنه يحتمل أن يكون حصل من كليهما في زمان واحد ، وأن يكون حصل من زيد أولاً ، وأن يكون حصل من عمرو أولاً ، فهذه ثلاثة احتمالات عقلية ، لا دليل في الواو على شيء منها . هذا مذهب جميع البصريين والكوفيين » .
وذكروا أيضًا أن ( الفاء ) تفيد الترتيب والتعقيب يقول سيبويه(12) ، في معرض التمييز بين الواو والفاء :« و( الفاء ) ، وهي تضم الشيء إلى الشيء ؛ كما فعلت ( الواو ) ، غير أنها تجعل ذلك متَّسقًا بعضه في إثر بعض ؛ وذلك قولك : مررتُ بعمروٍ فزيدٍ فخالدٍ . وسقط المطر بمكان كذا وكذا ، فمكان كذا وكذا ؛ وإنما يقرو(13) أحدهما بعد الآخر » .
وأما ( ثَمَّ ) فقد ذكروا أنها تفيد الترتيب مع التراخي . يقول المرادي(14) :« ثم حرف عطف يشرك في الحكم ، ويفيد الترتيب بمهلة ؛ فإذا قلت : قام زيد ثم عمرو ، آذنت بأن الثاني بعد الأول بمهلة » .
وقد علل السهيلي دلالة التراخي في ( ثم ) من دلالة اشتقاقها فقال(15) :« لا غرو أن يتقارب معنى الحرف من معنى الاسم المشتق المتمكن في الكلام ؛ فهذه ( ثم ) حرف عطف ، ولفظها كلفظ ( الثَّم ). والثَّمُ هو رمُّ الشيء يعضه إلى بعض … وأصله من ثمَمْتُ البيتَ ، إذا كانت فيه فُرَج فَسُدَّ بالثَّمَام(16) .
وقال الشاعر :
وَأَمَّا الرِّيَاحُ فقد غَادَرَتْ ** رَواكدَ واستَمْتَعتْ بالثُمام
والمعنى الذي في ( ثُمَّ ) العاطفة قريب من هذا ؛ لأنه ضمّ الشيء إلى شيء ، بينهما مهلة ؛ كما أن ثَمَّ البيت : ضَمُّ بين شيئين بينهما فرجة » .
فامتازت ( ثم ) عن ( الواو ) بالترتيب والمهلة ، وعن ( الفاء ) بالتراخي في الزمن . يقول سيبويه- مفرقًا بين هذه الأحرف الثلاثة(17) :« فإذا قلت : مررتُ برجل راكب وذاهب ، استحقهما ، لا لأن الركوب قبل الذهاب . ومنه : مررتُّ برجل راكب فذاهب ، استحقهما ؛ إلا أنه بَيَّنَ أن الذهاب بعد الركوب ، وأنه لا مهلة بينهما ، وجعله متصلاً به . ومنه : مررتُ برجل راكب ثم ذاهب ، فبيَّنَ أن الذهاب بعده ، وأن بينهما مهلة ، وجعله غير متصل به ، فصَّيَره على حِدَة » .
والذي يهمنا في هذا الموضع هو المخالفة والمغايرة الحاصلة بين حروف العطف في السياق القرآني ، والدلالات التي تنتج عن هذا العدول ، وسيكون تناولنا للعدول في حروف العطف مقتصرًا على أهمها وأكثرها ورودًا في التعبير القرآني ؛ وهي ( الواو ) ، و( الفاء ) ، و( ثم ) ؛ وذلك لكثرة ورود العدول بين هذه الحروف ، مما يدعو ذلك إلى التأمل في أسراره ، وما يحققه من دلالات تكشف عن جوانب الإعجاز في هذا القرآن .
ويتمثل العدول في هذه الحروف على النحو الآتي :
1- العدول عن ( الواو ) إلى ( الفاء ) ، والعكس :
من ذلك قوله تعالى :﴿ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ﴾[ النازعات: 1- 5] . فقد عدل هذا السياق عن ( الواو ) في قوله :﴿ وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً ﴾ إلى ( الفاء ) في قولـه :﴿ فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً ﴾ . ولو اطرد السياق على نمط واحد ، لكانت :( والسابقات سبقًا ، والمدبرات أمرًا ) .
ويمكننا فهم سر هذا العدول من تعليق الزمخشري على ذلك بقوله(18) :« أقسم سبحانه وتعالى بطوائف من الملائكة تنزع الأرواح من الأجساد ، وبالطوائف التي تنشطها . أي : تخرجها من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها ، وبالطوائف التي تسبح في مضيها . أي : تسرع فتسبق إلى ما أمروا به ، فتدبر أمرًا من أمور العباد » .
فالذي نفهمه من كلام الزمخشري أن الملائكة في اختصاصها ووظائفها على طوائف ؛ فمنها طوائف تنزع الأرواح من الأجساد ، وطوائف تخرجها ، وأخرى تسبح في مضيها ؛ لتنفيذ ما أمرت به . وهذه الأخيرة وقف عندها القرآن بالوصف ، فوصفها بأنها تسبح فتسبق فتدبِّر ؛ فهي طائفة توصف بثلاث صفات متتابعة ؛ وهي : السبح والسبق والتدبير ؛ لذلك عطف بين صفاتها هذه بـ( الفاء ) ، وعطف بين ذوات هذه الطوائف المختلفة بـ( الواو ) .
فكانت ( الواو )- في هذا السياق- لعطف الذوات ، و( الفاء ) لعطف الصفات ، فدل العدول عن ( الواو ) إلى ( الفاء ) أن هذه الطائفة من الملائكة هي طائفة واحدة ، تتصف بصفات متعدِّدة ، لا طوائف مختلفة ؛ وإنما دلت ( الفاء ) هنا على تعاقب هذه الصفات وتتابعها .
وهو ما يرد أيضًا في قوله تعالى :﴿ وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً * وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً * فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً * فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً ﴾[المرسلات: 1- 5] ؛ إذ جاء العدول عن ( الفاء ) في قوله تعالى :﴿ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً ﴾ إلى ( الواو ) في قولـه تعالى :﴿ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً ﴾ ؛ ليفرق بين طائفتين من الملائكة، فما قبل ( الواو ) يمثل طائفة مستقلة في الملائكة مهمتها الإرسال والعصف ، وطائفة أخرى جاء ذكرها بعد ( الواو ) مهمتها النشر والفرق وإلقاء الذكر . وهو ما أوضحه الزمخشري(19)بقوله :« أقسم سبحانه بطوائف من الملائكة أرسلهن بأوامره ، فعصفن في مضيهن ؛ كما تعصف الرياح تخففًا في امتثال أمره ، وبطوائف منهم نشرن أجنحتهن في الجو عند انحطاطهن بالوحي ، أو نشرن الشرائع في الأرض ، أو نشرن النفوس الموتى بالكفر والجهل بما أوحين ، ففرقن بين الحق والباطل فألقين ذكرًا إلى الأنبياء » .
ويزيد الألوسي الأمر إفصاحًا ، فيقول(20) :« وعَطفُ الناشرات على ما قبل ( الواو ) ظاهرٌ للتغاير بالذات بينهما ، وعطف العاصفات على المرسلات ، والفارقات على الناشرات ، وكذا ما بعد ( الفاء ) ؛ لتنزيل تغاير الصفات منزلة تغاير الذات » ، فدل هذا على أن الصفات المعطوفة بـ( الفاء ) تكون لموصوف واحد(21) .
2- العدول عن ( الواو ) إلى ( ثم ) ، والعكس :

من ذلك قوله تعالى:﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ [الشعراء: 63- 66] . فقد جاء السياق على هذا النحو :﴿ وَأَزْلَفْنَا … وَأَنجَيْنَا ثُمَّ أَغْرَقْنَا ، فعدل عن ( الواو ) إلى ( ثم ) .
فما دلالة ( ثم ) هنا ؟ وهل هناك تراخٍ زمني بين إنجاء المولى عز وجل موسى ومن معه ، وبين إغراق فرعون وقومه ؟ ولماذا لم يقل :﴿ وَأَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ؛ كما هو الحال في قولـه تعالى :﴿ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴾[البقرة: 50] ، فأتى بـ( الواو ) في قوله :﴿ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ ؟
ويرى الباحث أن سياق المقام هو الذي يقتضي حرف عطف معين لدلالة معينة ؛ فالسياق في سورة الشعراء سياق تدرج في النعم ، فالنعمة الحاصلة من إغراق فرعون وجنده أعظم من سابقتها ، وهي إنجاء الفئة المؤمنة ، فأفادت ( ثم ) التراخي الرتبي ، لا الزمني ؛ وذلك أن سياق سورة الشعراء يذكر تكبر فرعون وإعراضه وظلمه . قال تعالى :﴿ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ﴾[الشعراء: 53- 58] .
فالسياق مركز على فرعون وجنده ، فكانت الإشارة بـ( ثم ) في الإغراق للدلالة على عظم هذه النعمة ، وإبراز عظم القدرة في أخذ فرعون وجنده . بينما كان السياق في سورة البقرة ، سياق تعديد نعم فحسب ، فقال تعالى :﴿ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴾[البقرة: 50] . وكذلك أنه ليس لفرعون وجنده ظهور على مسرح الأحداث هناك ؛ كما هو الحال في سورة الشعراء ، فأدى الاختلاف في المقال إلى اختلاف نظم الكلام تبعًا له .
ومن ذلك أيضًا قوله تعالى مخاطبًا المؤمنين :﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ [التوبة: 25] . فقد عدل السياق عن( الواو ) إلى( ثم ) ، فقال :﴿ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ، ولم يقل :( وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَوَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ) ؛ ليصور الحالة النفسية التي انتابت المسلمين في حنين عند هزيمتهم ؛ إذ صورت ( ثم ) شدة وطأة الزمن ، واستطالته في ذلك الموقف العصيب الذي أصابتهم فيه الدهشة والحيرة والاضطراب ، ﴿ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ . ولو أتى ( بالواو ) ، لما أفاد تلك الدلالة(22) .
ومنه أيضًا في قوله تعالى على لسان نبيه نوح عليه السلام :﴿ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ ﴾[يونس: 71] . ونلحظ في هذا السياق القرآني نبرة التحدي ظاهرة بارزة على لسان نبي الله نوح عليه السلام ، في مخاطبة قومه الذين أعرضوا عن دعوة الله عز وجل ، فدعاهم إلى أن يتَّحدوا هم وشركاؤهم ضدَّه للفتك به ، وأمهلهم بأن يتدبَّروا أمرهم علانية على الملأ لا غمة فيه ، ثم أمهلهم أخرى في إعداد عُددهم وعدَّتهم للفتك به والقضاء عليه . فإذا تسنى لهم ذلك فليقضوا عليه دون أي إنظار منهم له أو إمهال ، فدل العدول إلى ( الواو ) على نفي وجود أدنى زمن للمهلة والإنظار . وفي ذلك إمعان في التحدي لهم ، وعدم المبالاة بهم ، وعظم ثقته بالله عز وجل . ولو اطرد السياق بـ( ثم ) لما كان فيه من الدلالة على ذلك ما ذكر .
3- العدول عن ( الفاء ) إلى ( ثم ) ، والعكس :
من ذلك قوله تعالى:﴿ قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ [هود: 53- 55] . فعطف طلب الكيد بـ( الفاء ) وعدم الإنظار بـ( ثم ) .
وجاء على العكس من ذلك في تحدي الرسول صلى الله عليه [وآله]وسلم للمشركين ؛ وذلك في قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ [الأعراف: 191-195] . فعطف طلب الكيد بـ( ثم ) ، وعدم الإنظار بـ( الفاء ) .
والذي يبدو- والله أعلم- أن سياق سورة الأعراف فيه تسفيه لهذه الأصنام التي اتخذوها أندادًا من دون الله عز وجل ، ثم ارتفعت نبرة التحدي في الخطاب ، فوجه الله عز وجل الأمر لنبيه صلى الله عليه [وآله]وسلم أن يتحدَّى المشركين بأن يدعو هؤلاء الشركاء ، ويتضامنوا معهم في الكيد له ، و« أمهلهم من الزمن ما يتيح لهم فرصة الاستعداد والاحتشاد لـه ، فعطف الأمر بالكيد على الأمر بدعوة شركائهم بحرف المهلة ؛ إمعانًا في الاستهانة بالشركاء ، وعدم مبالاة بكيدهم ، وجاء عطف عدم الإنظار بـ( الفاء ) ؛ إغراقًا في التحدي والاستهانة حين لا يطلب لنفسه نفس المهلة للرد على كيدهم »(23) ، فطلب معاجلتهم بالقضاء عليه ، والإيقاع به ، وفي ذلك من الاحتقار لهم والتهكم بهم ما فيه .
أما في سورة هود فقد ادعى قوم هود أن آلهتهم المزعومة قد مست هود بسوء ، وأنها تضر وتنفع ، فعندئذ باشرهم بالتحدي السريع دون مهلة ؛ لأنهم « ما داموا يثبتون لآلهتهم هذه القدرة على إنزال الضُّرِّ به . فليس بحاجة إلى أن يطلب منهم دعوتها ، وإمهالهم لحشد قواهم ، فهم قد بدأو حربه بالفعل ، فطلب منهم التعجيل بالكيد له والقضاء عليه ، فأدخل ( الفاء ) على الأمر بالكيد ؛ لتدل على طلب المبادرة به »(24) .
ثم عدل بعد ذلك إلى ( ثم ) ؛ ليعطي لهم ولآلهتهم المزعومة مهلة طويلة من الزمن ، حتى يبلغوا في الكيد غايته . وقد أثبتت الياء في ( فيكيدوني ) ؛ لتطيل زمن النطق بالكلمة مع طول النطق بـ( ثم ) ، فيتسق طول النطق في التعبير مع طول الزمن في الإمهال »(25) .
ثم « إنهم ذكروا أن آلهتهم اعترته بسوء ، فكانت نبرة التحدي لديه أشد وآكد ، فتحدى الجميع بقولـه :﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ، ثم أظهر نفسه في التحدي ؛ وذلك بإثبات الياء ، زيادة في التحدي لهم والظهور »(26) .
ومنه قولـه تعالى :﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ﴾[المدثر: 18- 25] .
نجد هذا السياق القرآني العجيب قد مضى في اطراد في تكرار ( ثم ) ، فقال :﴿ ثُمَّ قُتِلَ .. ثُمَّ نَظَرَ .. ثُمَّ عَبَسَ .. ثُمَّ أَدْبَرَ .. فَقَالَ .. . ثم عدل عن ( ثم ) إلى ( الفاء ) فجأة في قوله بعد ذلك :﴿ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾ . ولم يطرد السياق ، فيكون :( ثم قال : إن هذا إلا سحر يؤثر ) .
وعندما نمعن النظر في هذا السياق نجد أن حرف التراخي ( ثم ) قد صور لنا أبلغ تصوير حالة الصراع النفسي الذي عاشه الوليد بن المغيرة الذي نزلت في شأنه هذه الآيات ، وكيف أنه أجال التفكير في شأن القرآن وأعوزته الحيلة بعد مهلة من الزمن وتريث ، فلم يجد ما يعيب به القرآن ، ثم بعد ذلك كله سارع إلى إلقاء كلمة مفتراة في وصف هذا القرآن العظيم بقوله :﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ . فدلت ( الفاء ) في قوله :﴿ فَقَالَ إِنْ هَذَا .. ﴾ على أن هذا القول قد صدر منه دون إعمال نظر ، أو فكر في المقول ، فلم يقل ما قاله عن قناعة ويقين ؛ وكأنها كلمة ألقاها على عجل ، ووّلى هاربًا مدبرًا من شدَّة الهزيمة النفسية التي حلت به(27) . ولو اطرد هذا السياق القرآني فكان :( ثم قال : إن هذا إلا سحر يؤثر ) ، لدل على أن هذا القول قد قاله بعد إعمال فكر وتريث ، ونظر واعتقاد ويقين ، وليس الأمر كذلك .
ومنه أيضًا قوله تعالى :﴿ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ﴾[طه: 20] . فقد جاء التعبير- في هذا السياق- عن تولي فرعون ، وجمعه الجموع والحشود والأعوان وكل ما يستطيعه من كيد ، بحرف العطف( الفاء ) ، فقال :﴿ فَتَوَلَّى .. فَجَمَعَ .. ﴾ ، ثم عدل في التعبير عن إتيان فرعون ومواجهته موسى عليه السلام إلى حرف التراخي ( ثم ) ، حيث قال :﴿ ثُمَّ أَتَى ﴾ .
وكان مقتضى السياق أن يكون :( فتولى فرعون ، فجمع كيده ، فأتى ) ، لا سيما أن جمع الناس وحشدهم والإعداد للمواجهة يحتاج إلى مهلة من الزمن ، في حين أن الإتيان بعد ذلك هو أيسر وأسهل ، وكان التعبير في هذا السياق يقتضي العكس ، بأن يقول :( ثم جمع كيده فأتى ) ، فمثل التعبير في هذا السياق خروجًا عن مقتضى الظاهر ؛ وذلك لدلالة نفسية عميقة يوحي بها هذا السياق ، مفادها أن الجمع كان أهون على فرعون من مواجهة موسى عليه السلام ، فدلت ( الفاء ) في قوله :﴿ فَجَمَعَ ﴾ إلى سرعة تحقق الجمع له وحشد الناس ؛ لكونه ملكًا جبارًا يخشى سطوته الجميع ، فأمره بالجمع نافذ وسريع ، وهو مع هذا كله يعيش هزيمة نفسية كبيرة في داخله من مواجهة موسى عليه السلام ، فهو يقدم رجلاً ، ويؤخر أخرى ؛ لذا عبَّر القرآن عن هذه الهزيمة النفسية بحرف التراخي ( ثم ) بقوله :﴿ ثُمَّ أَتَى ﴾ .
وإلى هذه النكتة في العدول أشار أبو السعود بقوله(28):« وفي كلمة التراخي إيحاء إلى أنه لم يسارع إليه ؛ بل أتاه بعد لأي وتلعثم » . وهو ما سرى في نفوس قوم فرعون وأعوانه أيضًا في قولهم :﴿ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً ﴾[طه: 64] ، « وكأني بهم ، وهم يطيلون زمن النطق بـ( ثم ) قبل الدعوة إلى لقائه ، يستهلكون الوقت ، ويتهربون من المواجهة ، ويتمنون ألا تكون »(29) .


 
 توقيع : السيد عباس ابو الحسن

يــــا لـثارات الـــزهــــــراء








رد مع اقتباس
قديم 10-21-2011, 11:15 AM   #3
السيد عباس ابو الحسن
المشرف العام


الصورة الرمزية السيد عباس ابو الحسن
السيد عباس ابو الحسن غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 11
 تاريخ التسجيل :  May 2010
 أخر زيارة : 11-30-2012 (04:20 PM)
 المشاركات : 735 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي



ثالثًا- العدول في حروف النفي :

نجد أن التعبير القرآني قد خالف في الاستعمال بين أداتي النفي بـ( ما ) ، و( إِنْ ) ، فعدل في الأسلوب عن ( ما ) إلى ( إنْ ) كثيرًا . وقد ذكر النحاة أنَّ ( إنْ )(30): حرف نفي يدخل على الجملة الفعلية والاسمية ؛ نحو قوله تعالى :﴿ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾[التوبة: 107] . أي : ما أردنا إلا الحسنى . وقال مجاهد (ت 103هـ) :« كل شيء في القرآن ( إنْ ) فهو إنكار »(31).
وقال الراغب (ت 502هـ) في ( إنْ ) هذه(32) : « وأكثر ما يجيء يتعقبه ( إلا ) ؛ نحو :﴿ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنّاً ﴾[الجاثية: 32] . و:﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ﴾[المدثر: 25]. و:﴿ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ [ هود: 54] ». وكذلك الحال مع حرف النفي ( ما ) ، فهو يدخل على الجملة الفعلية والاسمية .
ويذكر النحاة أن ( إنْ ) بمنزلة ( ما ) في نفي الحال(33) . ويقول برجشتراسر(34) :« و( إنْ ) تكاد تطابق ( ما ) في وظيفتها ، وأكثر وقوعها قبل ( إلا ) للجناس بينهما ؛ نحو :﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ﴾[يوسف: 40] » .
ويذكر أحمد ماهر البقري في أساليب النفي في القرآن أنه(35) « لا نكاد نجد فرقًا بين ( إنْ ) ، و( ما ) ؛ إذ هما لنفي ما في الحال غالبًا » .
والحقيقة أن التعبير القرآني قد فرق بينهما في الاستعمال ، من خلال ما نلحظه من المخالفة بينهما ، والعدول عن حرف إلى آخر منهما . وقد تتبع فاضل السامرائي المخالفة بين الأداتين في الاستعمال القرآني ، فوجد أن النفي بـ( إن ) آكد من ( ما )(36) ، يدل على ذلك- كما قال- اقترانها الكثير بـ( إلا ) . وهذا ما يعطيها قوة وتأكيدًا ؛ فإن في القصر قوة ؛ وذلك نحو قوله تعالى :﴿ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا [إبراهيم: 10]. وقوله تعالى :﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ﴾[الإسراء: 44] .
ونضيف إلى ما قاله السامرائي أن ( ما ) قد تأتي مقترنة بـ( إلا ) ؛ ولكن هذا ليس هو الغالب في استعمالها ، في حين أن ( إنْ ) النافية غالب في استعمالها اقترانها بـ( إلا ) ، والقصر بـ( إلا ) يرد للتأكيد ؛ وذلك يوحي بقوتها في التأكيد أكثر من ( ما ) .
ومن خلال السياقات القرآنية التي وردت فيها ( إن ) النافية ، نجد أن النفي بها آكد وأقوى . وهذا يفسر لنا دلالة المخالفة في السياقات القرآنية التي ورد فيها العدول عن ( ما ) إلى ( إن ) ؛ نحو قوله تعالى على لسان النسوة :﴿ مَا هَـذَا بَشَراً إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾[يوسف: 31] . فقد جاء النفي ابتداء بـ( ما ) ، فقال :﴿ مَا هَـذَا بَشَراً ﴾ ، ثم عدل عنه إلى النفي بـ( إن ) ، فقال :﴿ إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾ . ولم يطرد السياق على نمط واحد من النفي فيكون :( ما هذا بشرًا ، ما هذا إلا ملك كريم ) ؛ وذلك لأن نفي البشرية عنه أهون من إثبات وصف الملائكية له ، فأتى بـ( إنْ ) فيما هو آكد ؛ إمعانًا في تأكيد صفة الملائكية له في الحسن والهيئة ، ونفي ما سواها عنه ؛ إذ القصر بـ( إلا ) يفيد دلالتي النفي ، والإثبات معًا(37) ، فقد أثبت له صفة الملائكية ، ونفى عنه ما دونها .
ومنه قولـه تعالى :﴿ قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ ﴾[يس: 15] . فأتى بحرف النفي ( ما ) ابتداء ، فقال :﴿ مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا .. وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن ﴾ ، ثم عدل بعد ذلك إلى ( إن ) ، فقال :﴿ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ ﴾ . ولو جرى السياق على نسق واحد لكان :( وما أنتم إلا تكذبون ) . ويرجع هذا إلى أن « نفي الثاني أقوى ، فجاء به بـ( إنْ ) ، فإن الأول إثبات البشرية ، والثاني الكذب ، وهم بشر لا شك في ذلك ، فجاء به بـ( ما ) ، والثّاني إثبات الكذب للرسل -عليهم السلام- وإنكار أن يكونوا صادقين ، وهو يحتاج إلى توكيد أكثر فجاء به بـ( إنْ ) »(38) .
وهذا الأمر يطرد في التعبير القرآني ، فحيثما وجد النفي بـ( إن ) ، فهو آكد من النفي بـ( ما ) . ومن ذلك أيضًا قوله تعالى :﴿ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [الجاثية: 24] . فقد اطرد النفي بـ( ما ) في السياق كله ؛ إلا قوله :﴿ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ، فقال :﴿ مَا هِيَ .. وَمَا يُهْلِكُنَا .. وَمَا لَهُم بِذَلِكَ .. إِنْ هُمْ ﴾ . وسبب هذا العدول إلى ( إن ) النافية هنا : أن هذا التعقيب هو رد من المولى عز وجل على كلامهم السابق ، فناسب ذلك الإمعان في التأكيد على مرحلتين : الأولى : بالنفي بـ( ما ) ، في قوله :﴿ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ ﴾ ، بدليل مجيء ( من ) للتأكيد في قوله : ﴿ مِنْ عِلْمٍ ﴾ ، فأفادت نفي وجود أي شيء لهم من العلم ، ثم ارتقى التأكيد بالنفي-في المرحلة الثانية- إلى مستوى أعلى من سابقه ، فقال :﴿ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ، فكانت ( إن ) هنا أنسب في التأكيد من ( ما ) .
وهو ما يظهر لنا جليًّا أيضًا في خطاب نبي الله شعيب- عليه السلام- لقومه بقوله : ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ ﴾[هود: 88] . فعدل في النفي عن ( ما ) إلى ( إن ) ، فقال :﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ ﴾ ، ولم يقل :( وما أريد إلا الإصلاح ) ، فيطرد النفي بـ( ما ) ؛ لأن نبرة التأكيد قد ارتفعت لدى نبي الله شعيب عليه السلام ، فأمعن في التأكيد لقومه المكذبين له بقوله :﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ ﴾ ، مؤكدًا بذلك هدفه من رسالته ودعوته .
ويستوقفنا في هذا المقام قول المولى عز وجل مخاطبًا نبيه صلى الله عليه[وآله] وسلم بقوله :﴿ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ ﴾[فاطر: 22- 23] . فلم يطرد النفي بـ( ما ) ، فيكون :( وما أنت إلا نذير ) ؛ كما قال :﴿ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ﴾ ؛ وذلك لأن النفي في الأولى :﴿ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ﴾ ، أمر مسلم به ، فلا يحتاج إلى مزيد تأكيد . فإسماع الموتى أمر مستحيل تصوره وحصوله ، سواء أكانوا موتى القلوب ، أم موتى الأجساد ؛ لكنه عدل بعد ذلك إلى ( إن ) ، فقال :﴿ إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ ﴾ ؛ لأن المولى عز وجل أراد في هذا السياق الإمعان في التأكيد لنبيه صلى الله عليه[وآله]وسلم أنه نذير فحسب ، ولا يملك القدرة على هداية قلوب الخلق ؛ وإنما وظيفته الإنذار .
والرسول صلى الله عليه[وآله] وسلم يعلم أنه نذير، فما دلالة التأكيد بالقصر في هذا السياق ؟ والجواب :« أنهُ نزّل الرسول صلى الله عليه[وآله] وسلم منزلة من يعتقد أنه يملك مع صفة الإنذار القدرة على هداية الناس ؛ لأنه لما كان جاهدًا في دعوة القوم ، شديد الحرص على هدايتهم ، صار في حكم من يظن أنه يملك مع صفة الإنذار صفة الهداية ، فجرى الأسلوب كما يجري في خطاب الشك فقيل :﴿ إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ ﴾ »(39) .
وقد يرد العدول في النفي متمثلاً في المخالفة بين ( لم ) ، و( ما ) . وعلماء النحو يذكرون أن ( لم ) تدخل على المضارع ، فتقلب زمانه إلى الماضي ، و( ما ) تنفي الفعل الماضي ، فتقول : ( لم أذهب ) ، و( ما ذهبت ) ، فيفيدان الدلالة على المضي .
ولكن ، هل النفي بـ( لم ) ، و( ما ) يتماثلان ، فيكون النفي في قولهم :( لم أذهب ) هو معنى النفي في قولهم :( ما ذهبت ) ؟ وأن جملة ( لم أذهب ) هي في المعنى :( ما ذهبت ) ؛ لتحول الفعل المضارع إلى الماضي مع ( لم ) ، أم أن هناك فرقًا دلاليًّا بينهما ؟
ويرى الباحث أن ( لم ) ، و( ما ) ليستا متماثلتين تمامًا في النفي ؛ بل بينهما فرق دقيق ، « فليس من حكمة العربية أن تجعل أداتين مختلفتين متشابهتين تمامًا في المعنى ، ولا بد أن يكون لكل واحد منهما خصوصية ليست في الأخرى »(40) ، « والعربية تميل إلى التفريق والتخصيص »(41) .
وقد ذهب بعض علماء اللغة المعاصرين إلى التفريق بينهما ؛ فإبراهيم أنيس يرى(42):« أن ( لم ) منحوتة من :( لا ) ، و( ما ) ، ويترتب على ذلك التأصيل أنها آكد من النفي بأداة بسيطة مثل ( ما ) . أو على الأقل لا يمكن أن يصبح النفي بـ( لم ) أضعف من النفي بـ( ما ) » . وكذلك قال براجشتراسر عن ( لم )(43)، قال :« إنها ربما ركبت من :( لا ) ، و( ما ) الزائدة » .
ويرى شيخنا الدكتور سمير استيتية(44):« أن النفي بـ( لم ) الداخلة على الفعل المضارع تفيد استغراق النفي لكل جزيئات الزمن الماضي ، في حين أن النفي بـ( ما ) يفيد نفي الماضي بعمومه ؛ لذلك كان نفيها آكد من ( ما ) . وهو ما نجده واضحًا في الاستعمال القرآني ؛ من ذلك قوله تعالى :﴿ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ﴾[البقرة: 259] . « فجاء بـ( لم ) ؛ وذلك لأن تغير الشراب والطعام يحصل تدريجيًّا ويستمر ، وليس دفعة واحدة ، فجاء بـ( لم ) للدلالة على أنه لم يحصل شيء من ذلك . ولو جاء بـ( ما )، وقال :( ما تسنه ) ، لأفاد نفي التسنَّه ، وهو التغير بصورته النهائية التامة »(45) .
ونجد هذا المعنى في تأكيد النفي بـ( لم ) واضحًا أيضًا في قول العذراء :﴿ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ﴾[مريم: 20] . فهو إمعان في النفي من أن تكون قد تلبست بهذا الوصف في أي مرحلة من مراحل حياتها ، فضلاً من أن يكون هذا وصفًا معروفًا لها . في حين كان خطاب قومها لها :﴿ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ﴾[مريم: 28] ، فجاء النفي منهم بـ( ما ) ، فلم يقولوا :( ولم تك أمك بغًّاً ) ؛ لأنه ليس بمقدورهم الإطلاع على كل أزمنة حياة أمها حتى يصدر النفي منهم بصيغة التجدد والحدوث ؛ وإنما جاء النفي منهم بصيغة العموم ، فقالوا :﴿ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ﴾ ، فهذا هو المعروف والمشهور للناس من حال أمها بصفة العموم ؛ لذا كان النفي منها أبلغ وأدق وأنفى للتهمة ؛ لكونها أدرى بكل لحظات حياتها وتصرفاتها(46) .
ومما سبق يتضح أن النفي بـ( لم ) للفعل المضارع يفيد نفي أدنى درجات حدوث الفعل في زمنه الماضي ، فالفعل في حدوثه يمر بمراحل متفاوتة في التحقق والحصول . ونفيه بـ( لم ) يقع على أولى فترات تشكله وحدوثه ، كما أنه يفيد استغراق النفي للزمن الماضي بكل جزئياته ، في حين أن النفي بـ( ما ) يفيد نفي الحدث في الماضي ، بصورته النهائية وبعمومه(47) .
وقد خلص الباحث بعد ذلك من بحثه إلى أن العدول في حروف المعاني هو من أبرز الظواهر الأسلوبية في التعبير القرآني ، وأكثرها ورودًا ، ويمثل مظهرًا من مظاهر الإعجاز البياني في القرآن الكريم . وأن السياق له دور بارز ومهم في تحديد الدلالة المناسبة لهذا العدول . وأنه من خلال تحليل سياقات العدول المتعددة في النص القرآني ، نخلص إلى أن كل عدول في المبنى يصاحبه عدول في المعنى قطعًا .
وتوصل الباحث من خلال تحليل مواطن العدول في حروف المعاني أن كل حرف يختص بدلالة لا يشاركه فيها غيره ، والسياق هو الذي يحدد الدلالة المرادة ؛ وبناء على ذلك لا تناوب في حروف المعاني .
وفي الختام كان المقصد من تناول هذا العدول في القرآن الكريم هو التحليل والتعليل لصوره وأنماطه ، لا الوقوف عند ظاهر التركيب . وهذا جهدٌ لا أزعم فيه أنني قد استوفيت كل جزئيات هذا العدول في القرآن الكريم ، فالنص القرآني أكبر من أن يحيط به دارس ، لكني أفدت منه ما يحقق لي هدف هذا البحث .
د/ عبد الله علي الهتاري
أستاذ مساعد بكلية الآداب والألسن/ قسم اللغة العربية
جامعة ذمار/ اليمن
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،، ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
الهوامش
(1) الكشاف، 3/289.
(2) التفسير القيم، ابن القيم، جمعة محمد أويس الندوي، ت: محمد حامد الفقي، 15-16.
(3) من أسرار حروف الجر في الذكر الحكيم، 69.
(4) من أسرار حروف الجر، 69.
(5) من أسرار حروف الجر، 69.
(6) الكشاف، 1/500.
(7) انظر: الإتقان في علوم القرآن، 1/167.
(8) التحرير والتنوير، 14/114.
(9) رواه البخاري، 5/2027، برقم (4986).
(10) لكتاب، 4/216.
(11) شرح الكافية، 6/145.
(12) الكتاب، 4/217.
(13) يقرو: يتبع.
(14) الجنى الداني، 426.
(15) نتائج الفكر، 124.
(16) الثَّمام هو عشب، المعجم الوسيط، 1/101
(17) الكتاب، 1/429.
(18) الكشاف، 4/112.
(19) الكشاف: 4/202.
(20) روح المعاني، 29/169.
(21) انظر: من أسرار حروف العطف، 40.
(22) انظر: من أسرار حروف العطف، 164، والتحرير والتنوير، 10/157.
(23) من أسرار حروف العطف في الذكر الحكيم، محمد الأمين الخضري، 286-287.
(24) المصدر السابق، 287.
(25) نفسه، 287.
(26) انظر: التعبير القرآني، 81.
(27) انظر: من أسرار حروف العطف، 161، والتعبير القرآني والدلالة النفسية، 256.
(28) تفسير أبي السعود، 6/24.
(29) من أسرار حروف العطف، 163.
(30) انظر: مغني اللبيب، 33-34، وحاشية الدسوقي، 1/24، ومعاني القرآن، الفراء، 2/214، 370، والكشاف، 1/374.
(31) الإتقان في علوم القرآن، 1/155.
(32) مفردات القرآن، 27.
(33) انظر: المفصل، الزمخشري، 307، والهمع، 2/116.
(34) التطور النحوي: 174.
(35) أساليب النفي في القرآن، 93.
(36) معاني النحو، 4/200.
(37) انظر: معاني التراكيب، عبد الفتاح لاشين، 2/8-9.
(38) معاني النحو، 1/258.
(39) عبد الفتاح لاشين، 2/27، وانظر: دلائل الإعجاز، 334.
(40) معاني النحو، 1/252.
(41) التطور النحوي، 90.
(42) من أسرار اللغة، 115، وانظر: البرهان، 2/379.
(43) التطور النحوي، 173.
(44) سماعاً منه.
(45) معاني النحو، 4/196.
(46) انظر: البرهان في علوم القرآن، الزركشي، 2/395.
(47) لا يتفق الباحث في هذا الأمر مع فاضل السامرائي فيما ذهب إليه في كتابه معاني النحو (4/193) من أن النفي بـِ( ما ) آكد من النفي بـ( لم ) ، فما ذكرناه في هذا المقام من أقوال العلماء ، وما تدل عليه سياقات نصوص القرآن يدلل على ما قررناه هنا .


 
 توقيع : السيد عباس ابو الحسن

يــــا لـثارات الـــزهــــــراء








رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

كود [IMG]متاحة
كود HTML معطلة




الساعة الآن 09:08 PM


Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved.
Support : Bwabanoor.Com
HêĽм √ 3.1 BY:
! ωαнαм ! © 2010
منتديات دعوة الاسلامية