عرض مشاركة واحدة
قديم 12-24-2010, 10:09 PM   #13
الشيخ حسن العبد الله
مشرف


الصورة الرمزية الشيخ حسن العبد الله
الشيخ حسن العبد الله غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 232
 تاريخ التسجيل :  Nov 2010
 أخر زيارة : 03-18-2014 (09:42 PM)
 المشاركات : 352 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي




لكن الإمام زين العابدين عليه السلام تجاهل وجود هشام ، قاصدا إلى عواقب إقدامه الجرئ ذلك : فهو يسير في إكمال أشواط الطواف ، متزييا بزي الأنبياء ، والناس يتنسمون منه ريح النبوة وعبق الرسالة ، وهذا واحد من آثار نضال السنوات الطويلة العجاف الشداد ، التي كابد فيها الإمام أنواع الصعاب ، ليفتح أمام الناس طريق معرفة الإمام والوصول إلى الإمامة ، بينما كانت الخلافة في غفلة عن هذا كله ، ومنهمكة في عتوها ‹ صفحة 216 › وظلمها ولهوها وبذخها وترفها وطغيانها ، بعيدا عن الناس . والناس ، أولئك الذين تجاهلوا ابن الخليفة ، ولم يأبهوا به ، ولم يفتحوا له طريقا إلى لمس الحجر الأسود ، هاهم يقفون سماطين ، هيبة للإمام زين العابدين عليه السلام ، يفرجون له عن الحجر ، ليستلمه ! ومثل هذا العمل يخدش غرور هشام الذي يمثل الخلافة ، ويغيض المنتمين إلى الدولة ، ولذلك تجاهل هشام شخص الإمام عليه السلام . ومما يدل على حدة تأثير الموقف فيهم رواية المدائني , عن كيسان عن الهيثم أن عبد الملك قال للفرزدق : أو رافضي أنت يا فرزدق ؟ فقال : إن كان حب أهل البيت رفضا ، فنعم ( 1 ) . والشاعر الشعبي - الفرزدق - الذي يعيش بين العامة ، استصعب ذلك التجاهل ، وانبرى بإنشاد الميمية العصماء ، التي طار صيتها مع الحجاج عندما عادوا إلى مختلف البقاع . إن أي حكم سياسي لا يتحمل مثل هذه المواقف التي تحط من كرامة رجال الدولة ، وخاصة رجال البلاط ، وبهذه الصورة . ولذلك ، فإن الأمويين سجنوا الفرزدق على هذا الشعر الذي اعتبروه إهانة للنظام . فكيف لا يكون عمل الإمام زين العابدين عليه السلام استفزازا سياسيا ؟ ! ومما يؤكد على استهداف الإمام عليه السلام للنظام في هذا التصرف هو أن الإمام زين العابدين عليه السلام سارع إلى الاتصال بالفرزدق في السجن ، ووصله بشئ رمزي من المال ، مكافأة لموقفه السياسي ذلك . ولا ريب أن في هذا - أيضا - إعلانا لدعم المعارضة المعلنة من قبل الفرزدق ، لا يمكن إغفاله عن سجل الأعمال السياسية التي قام بها الإمام عليه السلام . وموقفه من عمر بن عبد العزيز : كان عمر بن عبد العزيز ، قبل توليه الخلافة ، يسكن المدينة ، يرفل أثواب الترف ، ‹ صفحة 217 › باعتباره من العائلة المالكة . وكان من ترفه انه يلبس الثوب بأربعمائة دينار ، ويقول : ( ما أخشنه ) ( 1 ) . وقال بعضهم : كنا نعطي الغسال الدراهم الكثيرة حتى يغسل ثيابنا في إثر ثياب عمر بن عبد العزيز ، من كثرة الطيب الذي فيها ( 2 ) . قال عبد الله بن عطاء التميمي : كنت مع علي بن الحسين في المسجد فمر عمر بن العزيز ، وعليه نعلان شراكهما فضة ، وكان من أمجن الناس ، وهو شاب . . . ( 3 ) . ولما كان يتمتع به من ذكاء وتدبير ، كان يراقب أعمال الإمام زين العابدين عليه السلام عن كثب ، فيجد أنه عليه السلام قد هيأ بجهاده وصبره الأرضية الصالحة لانقلاب اجتماعي جذري على الحكم الأموي المرواني . وكان الإمام يتوسم في عمر التطلع إلى الخلافة ، فقد قال عليه السلام لعبد الله بن عطاء - ذيل حديثه السابق - : أترى هذا المترف - مشيرا إلى عمر - إنه لن يموت حتى يلي الناس ، فلا يلبث إلا يسيرا حتى يموت ، فإذا مات لعنه أهل السماء ، واستغفر له أهل الأرض ( 4 ) . ففي هذا الحديث : 1 - يشاهد توسم الإمام عليه السلام في عمر أنه يتطلع إلى الحكم والولاية ، رغم بعده عنها ، واشتغاله في المدينة بما لا يمت إلى ذلك . وإعلانه عن هذا التوسم يدل بوضوح على أن الإمام كان يفكر في شؤون الحكومة لا حاضرها بل ومستقبلها ، وأنه كان مفتوحا أمامه بوضوح . 2 - إن الإمام عليه السلام كان يعرف من ذكاء عمر ودهائه أنه سوف ينافق في ولايته ، ‹ صفحة 218 › بما ينطلي على الناس أنه صالح و ( عادل ) في الحكم ، بينما هو ، قد احتال في ضرب الحق وتثبيت الباطل مدة أطول ، وقد كان من شأن الدولة الأموية أن تزول قبل ذلك , لولا تصرفاته المريبة ! حيث أن آثار جهود الإمام زين العابدين عليه السلام ونضاله ضد الطاغوت الأموي ، كانت قد بدت ظاهرة ، فكان الجو السياسي - على أثر انتشار الوعي - مشرفا على الانفتاح ، بحيث لم يطق التعنت الأموي على الاستمرار في عتوه ، وإعلان فساده ، وانتهاكه للحرمات كسب الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام على المنابر ، على رؤوس الأشهاد ، وصد الأمة عن المعارف والثقافة الإسلامية الصحيحة بمنع الحديث والسنة ، والأدهى من كل ذلك استمرار الضغط على كبار المسلمين وسادتهم كعلماء أهل البيت عليهم السلام بالتقتيل والتشريد والسجن ، وكعلماء الصحابة ومؤمنيهم بالإهانة والمطاردة والقتل . فكان عمر بن عبد العزيز ، وهو الذي راقب الأوضاع عن كثب يعرف كل هذه المفارقات في حكم آبائه وسلفه ، فلما استولى على كرسي الخلافة بدأ بتبديل تلك السياسة الخاطئة . فعمد إلى رفع ذلك السب عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، الذي كان وصمة عار على جبين الحكم الأموي ، ولطخة سوداء في صفحات تاريخ المسلمين لا تمحى مدى الدهر ، إذ يسب أحد الخلفاء ، ابن عم رسول الله وصهره ، وأحد كبار الصحابة ، على منابرهم مدة مديدة ، بكل صلافة وجرأة ! ! ( 1 ) . وقد كان عمر نفسه ممن يلعن عليا قبل توليه السلطة ، حينما كان يتعلم في المدينة ( 2 ) . ثم إن سب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لم يؤد إلا إلى النتائج المضادة لأهداف بني أمية ، مهما تطاول ، وقد تنبه العقلاء إلى ذلك ، وجاء نموذج من هذا في ما روي عن عامر بن عبد الله بن الزبير - وكان من عقلاء قريش - سمع ابنا له ينتقص علي بن ‹ صفحة 219 › أبي طالب عليه السلام ، فقال له : لا تنتقص عليا ، فإن الدين لم يبن شيئا فاستطاعت الدنيا أن تهدمه ، وإن الدنيا لم تبن شيئا إلا هدمه الدين ! يا بني ، إن بني أمية لهجوا بسب علي بن أبي طالب عليه السلام في مجالسهم ولعنوه على منابرهم ، فإنما يأخذون - والله - بضبعيه إلى السماء مدا ، وإنهم لهجوا بتقريظ ذويهم وأوائلهم من قومهم فكأنما يكشفون منهم عن أنتن من بطون الجيف ، فأنهاك عن سبه ( 1 ) . ثم رفع عمر بن عبد العزيز المنع عن نشر الحديث والسنة ، فعمم أمرا بكتابة الحديث وتدوين العلم ، وسجل باسمه هذه المأثرة التي لا يزال كثير من المصنفين يمدحونه بها ! إن عمر بادر إلى هذه الأعمال وأمثالها ، لتلافي أمر انهدام الدولة الأموية ، وقبل أن ينسحب البساط من تحته وتحت قبيلته . وأخطر ما في عمله أنه أخر نتائج الجهود الجبارة التي قام بها الإمام زين العابدين عليه السلام إلى فترة أبعد ، لما فتحه أمام الناس من نوافذ للأمل بالإصلاح ، فتقاعسوا عن متابعة الأهداف التي خطط لها الإمام عليه السلام ، لأنهم علقوا آمالا طوالا عراضا على عمر ، وتظاهره بالصلاح ، بل عدوه مجددا للإسلام ! في بداية القرن الثاني ، وكالوا له المدح والثناء ، وكسب ود كثير من الناس ، حتى أتبعوه بالاستغفار بعد هلاكه . بينما هو ، لو كان يريد الخير للأمة لرد الأمر إلى أهله ، والحق إلى نصابه ، ولأصلح أهم ما أفسده بنو أمية والخلفاء من قبله ، وهو إرجاع الأمر إلى أهل البيت عليهم السلام الذين هم أولى بالأمر منه . قال السيد المقرم : ولو كان ابن عبد العزيز صادقا . . . لرد الخلافة إلى أهلها ، وهل ظلامة أحد أكبر من ظلامة أهل البيت عليهم السلام في عدم إرجاع الحق إليهم ؟ وتعريف الأمة أنهم الأولى ممن تسنم منبر النبوة بغير رضا من الله ولا من رسوله ؟ ( 2 ) ‹ صفحة 220 › ولكنه لم يفعل أي شي في هذا المجال . ولو كان محبا للعلم ، وحفظه من الدروس ، لما اكتفى برفع المنع من تدوينه ، بل لتصدى لتلك المجموعة التي دأب الخلفاء - وخاصة معاوية - على اختلاقها ووضعها ونشرها وتشويه الحق بها ، وكان من السهل وقوف عمر عليها ! فجمعها وأبادها ، أو كشفها وأعلن عن زيفها ! ولأمكنه - كذلك - السعي لفسح المجال أمام تلك المجموعة الممنوع نقلها وتداولها من الحديث والعلم ، والتي كانت تحتوي على فضائل علي وآله عليهم السلام ، فنشرها وأفصح عنها وأذاعها . ولكن تلك الأحاديث لو نشرت لما بقي لدولة بني أمية ذكر . فهو لم يفعل شيئا من هذا ، وإنما اكتفى بتصرفات تغر الناس وتقنعهم بأنه عادل ، يحب العلم ، ويحافظ على الإسلام ، كي لا تتعمق نقمة الناس عليه وعلى الخلافة الأموية ، فتنقلب عليه الأمة . ومهما يكن ، فإن تعرض الإمام زين العابدين عليه السلام لعمر بن عبد العزيز ، في ذلك الوقت ، وهو من
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 214 › ( 1 ) هذه الأبيات هي التي اختارها الأستاذ الفاضل المحقق الدكتور السيد جعفر الشهيدي ، من مجموع ما نسب إلى الفرزدق في مدح الإمام السجاد عليه السلام بعنوان ( الميمية ) بعد أن أشبعها بحثا وتحقيقا في كتابه القيم ( زندگاني علي بن الحسين عليه السلام ) ( الصفحات 112 - 133 ) وقد فصل فيه الحديث عما وقع من الاختلاف في ما ورد من أبيات على وزن الميمية في التراث العربي ، من حيث قائلها ، والممدوح الذي قيلت في حقه ، وفي عدد أبيات ما قيل في كل مناسبة ، وفي خصوص ما نسب إلى الفرزدق في مدح الإمام عليه السلام في مقام الحجر الأسود ، من حيث عدد الأبيات ، ودقق في مضمون الأبيات المنسوبة ، فتوصل إلى أن الأنسب بالمقام - زمانا ومكانا ووضعا - هو هذه الأبيات السبعة التي اختارها ، وأنها الأنسب بالشاعر وبالمناسبة لفظا وبلاغة ، ومعنى ودلالة . وأبان الوجوه التي استبعد بها الأبيات الأخر ، بتفصيل واف ، ومما يحسن ترجمته من كلامه ، بعد إيراده البحث المذكور ، قوله : إن كان الفرزدق قد أنشأ هذه الأبيات في حق الإمام علي بن الحسين ، فقد أدى جزءا ضئيلا من دينه ، وخفف شيئا من أثقال جرائمه التي يحملها على عاتقه ، حيث يعج ديوان هذا الشاعر بمدائح معاوية ، وعبد الملك بن مروان ، وابنه الوليد ، ويزيد بن عبد الملك ، وعمالهم مثل : الحجاج بن يوسف ، ويعثر في ديوانه على أكثر من عشرة قصائد في مديح هشام وابنه ، بالخصوص . إن ما كتبه اليافعي - في حق الفرزدق - يبدو وافيا جدا ، حيث قال : ( وتنسب إلى الفرزدق مكرمة يرتجى له بها الرحمة في دار الآخرة ) وأورد حديث الميمية ، في مرآة الجنان ( ج 1 ص 239 ) طبع مؤسسة الأعلمي بيروت - عن طبعة حيدرآباد الهند 1337 . وإليك بعض مصادر هذه القصيدة : تاريخ دمشق ( الحديث 133 ) مختصره ( 17 : 6 - 247 ) ديوان الفرزدق ( 2 : 178 ) الأغاني ( 15 : 327 ) و ( 15 : 261 ثقافة ) وصفوة الصفوة ( 2 : 8 - 99 ) طبقات الشافعية الكبرى للسبكي ( 1 : 153 ) وأمالي المرتضى ( 1 / 62 ) وانظر الإمام زين العابدين عليه السلام ، للمقرم ( ص 385 ) وما بعدها . ‹ هامش ص 216 › ( 1 ) المحاسن والمساوي للبيهقي ( ص 212 - 213 ) . ‹ هامش ص 217 › ( 1 ) طبقات ابن سعد ( 5 : 246 ) . ( 2 ) الأغاني ( 9 - 262 ) . ( 3 ) مناقب ابن شهرآشوب ( 4 / 155 ) ط الأضواء . ( 4 ) بصائر الدرجات ( ص 45 ) ودلائل الإمامة للطبري ( ص 88 ) وبحار الأنوار ( 46 : 23 و 327 ) وإثبات الهداة ( 3 : 12 ) وقد روى عاصم بن حميد الحناط في أصله ( ص 23 ) قريبا من هذا النص عن عبد الله بن عطاء قال : كنت آخذا بيد أبي جعفر , وعمر بن عبد العزيز عليه ثوبان معصفران ، قال : فقال أبو جعفر : أما إنه سيلي ثم يموت ، فيبكي عليه أهل الأرض ويلعنه أهل السماء ، ودلالته على المعاني التي ذكرناها أوضح . ‹ هامش ص 218 › ( 1 ) لاحظ الكشكول في ما جرى على آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ( ص 156 ) . ( 2 ) الكامل في التاريخ لابن الأثير ( 5 / 42 ) . ‹ هامش ص 219 › ( 1 ) الأمالي للطوسي - ط - البعثة ص 588 رقم 1217 المجلس ( 25 ) . ( 2 ) الإمام زين العابدين عليه السلام ( ص 65 ) . ‹ هامش ص 220 › ( 1 ) مناقب شهرآشوب ( 3 / 276 ) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 220 - 227
العائلة المالكة ، ويتطلع إلى الخلافة ، وهو على ما كان عليه من الترف والبذخ اللذين يدلان على روح الطاغوت في وجوده . إن تعرض الإمام له يدل على نوع من الاقتحام السياسي ، وهو موقف خطر يقفه الإمام ، بلا ريب ، يستتبع المؤاخذة من الحكام الظلمة . ولكن الإمام عليه السلام كان يقتطف ثمار خطته السياسية ، فلا يبالي بما سيقع عليه من جراء هذا الإعلان . ولقد أعلن ، فعلا تصديه لمثل ذلك في ما رواه حفيده جعفر الصادق عليه السلام في قوله تعالى : * ( هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا ) * [ سورة مريم : 98 ] قال : هم بنو أمية ، ويوشك أن لا يحس منهم أحد ولا يخشى . . . ما أسرعه ! سمعت علي بن الحسين عليه السلام يقول : إنه قد رأى أسبابه ( 1 ) . نعم ، رأى الإمام السجاد عليه السلام تلك الأسباب التي كانت من صنع سياسته الحكيمة . ‹ صفحة 221 › ثانيا : موقفه من أعوان الظلمة لقد شدد الإسلام النكير على إعانة الظالمين ، واعتبره ظلما وتعديا وتجاوزا للحدود ، حتى عد في بعض النصوص من الكبائر التي توعد عليها بالنار . ففي رواية معايش العباد التي ذكر فيها وجوه الاكتساب وأحكامها ، قال الصادق عليه السلام : وأما وجه الحرام من الولاية : فولاية الوالي الجائر ، وولاية ولاته ، الرئيس منهم ، وأتباع الوالي ، فمن دونه من ولاة الولاة إلى أدناهم ، . . . لأن كل شئ من جهة المعونة لهم معصية ، كبيرة من الكبائر ، وذلك : أن في ولاية الوالي الجائر درس الحق كله ، وإحياء الباطل كله ، وإظهار الظلم والجور والفساد ، وإبطال الكتب ، وقتل الأنبياء والمؤمنين ، وهدم المساجد ، وتبديل سنة الله وشرائعه . فلذلك حرم العمل معهم ، ومعونتهم ، والكسب معهم ( 1 ) . ومما لا يخفى على أحد : أن الجائرين لم يصلوا إلى مآربهم ، لو لم يجدوا أعوانا على ما يقومون به من مظالم ومآثم . وقد عبر الإمام عليه السلام عن ذلك لمن راح يذرف الدموع على ما يجري على أهل البيت من المصائب والظلم ، ما معناه : أن المسؤول عن ذلك ليسوا هم الظالمين فقط ، بل من توسط في إيصال الظلم وتمكين الظلمة ، وتمهيد الأمر لهم ، كلهم مشاركون في الجريمة . ولذلك - أيضا - ورد اللعن على ( من لاق لهم دواة ، أو قط لهم قلما ، أو خاط لهم ثوبا ، أو ناولهم عصا ) . مع أن هذه الأدوات لا تباشر الظلم ، وإنما هي جوامد لا تعقل ، إلا بوسائط وبعد مراحل ، وقد يستفاد منها للخير والصلاح ، ولكن القيام بخدمة الظالم ، ولو بهذه الأمور ، يكون من المعونة له . ‹ صفحة 222 › وقد اعتمد الإمام زين العابدين عليه السلام على هذه القاعدة الإسلامية ، وجعلها ركيزة في مقاومة النظام الفاسد ، وحاول تجريده من سلاح الوعاظ المحيطين به ، المتزلفين ، الذين تمرر السلطة على وجودهم ما تقوم به من إجراء يحسنون بذلك أفعالها أمام العوام ، ويوقع علماء الزور على آثامها . ففي الحديث أن الإمام السجاد عليه السلام كان يقول : العامل بالظلم ، والمعين له ، والراضي به : شركاء ثلاثة ( 1 ) . وكان يحذر الناس من التورط في أعمال الظلمة ، ولو بتكثير سوادهم والحضور في مجالسهم ، والانخراط في صحبتهم ، لأن الظالم لا يريد الصالح لكي يستفيد من صلاحه ، وإنما يريده : إما لتوريطه في مظالمه وآثامه ، أو أن يجعله جسرا يعبر عليه للوصول إلى مآربه وأهدافه الفاسدة . فكان الإمام عليه السلام يقول : لا يقول رجل في رجل من الخير ما لا يعلم ، إلا أوشك أن يقول فيه من الشر ما لا يعلم ، ولا اصطحب اثنان على غير طاعة الله ، إلا أوشك أن يتفرقا على غير طاعة الله ( 2 ) . فبعض ظاهري الصلاح يتصور أن اصطحاب الظالمين لا يضره شيئا ، وإنما يفيد من خلاله خدمة أو على الأقل يكفيه شرا ويدفع عنه ضررا ! ولكنه تصور خاطئ ، مرتكز على الغفلة عن الذي قلناه من استغلال الظالم لصحبة الصالحين لتوريطهم ، أو تمرير أغراضه عبر سمعتهم ، وهو لا يصحبهم على أساس الطاعة قطعا ، فلا بد أن يتفرقا على غير طاعة الله أيضا ، وهذا أقل الأضرار الحاصلة من هذه المصاحبة الخطرة . كما أن الذي يعيش مع الظالم ، ولو لفترة قصيرة ، فإن اصطحابه لا يخلو من كلمات التزلف والمجاملة ، والملاطفة بما لا واقع لكثير منه ، ولو بعمل مثل الاحترام والتبجيل ، وهذا كله مما يزيد من غرور الظالم وهو تصديق لما يقول ، وتوقيع على ما يفعل . كما أن فيه تغريرا للناس البسطاء الذين يرون الصالحين في صحبة الظالم ، ‹ صفحة 223 › فيعتبرون ذلك تصويبا لتصرفاته ، وإسباغا للشرعية عليها . بل ، إن مجرد سكوت من يصحب الظالم ، على ما يرى من فعله ، هو جريمة يحاسب عليها . وقد كان الإمام زين العابدين عليه السلام يسعى بكل الوسائل من النصح والموعظة والإرشاد ، إلى التخويف والتهديد ، إلى الفضح والتشهير ، في سبيل إقناع المتصلين بالأمويين من علماء السوء ، ليرتدعوا ، ويتركوا الارتباط بالبلاط ، هادفا من وراء ذلك فضح الحكام ، وتجريدهم عن كل أشكال الشرعية . ومن أعلام البلاط الذين ركز الإمام عليه السلام جهوده في سبيل قطع ارتباطه بالحكام هو : الزهري . الذي أكسبه الأمويون - زورا وبهتانا - شهرة عظيمة ، وروجوا له ، ونفخوا في جلده ، حتى جعلوه من أوثق الرواة في نظر الناس . بينما كان من المنحرفين عن الإمام علي عليه السلام ( 1 ) . وقال محمد بن شيبة : شهدت مسجد المدينة ، فإذا الزهري ، وعروة بن الزبير جالسان يذكران عليا عليه السلام فنالا منه ! ( 2 ) . واشتهر أنه كان يعمل لبني أمية ( 3 ) وكان صاحب شرطتهم ( 4 ) ولا يختلف الناس أنه كان يأخذ جوائزهم ( 5 ) . ولم يزل مع عبد الملك وأولاده هشام وسليمان ويزيد ، وقد استقضاه الأخير ( 6 ) . وجميع أهل البيت عليهم السلام يجرحونه ، وتكلم أناس فيه من غيرهم : قال عبد الحق الدهلوي : إنه قد ابتلي بصحبة الأمراء ، وبقلة الديانة ، وكان أقرانه من العلماء والزهاد يأخذون عليه وينكرون ذلك منه . ‹ صفحة 224 › وكان يقول : أنا شريك في خيرهم دون شرهم ! فيقولون له : ألا ترى ما هم فيه ، وتسكت ؟ ! ( 1 ) ولذلك - أيضا - كانوا يعلنون : ( من كان يأتي السلطان ، فلا يحضر مجلسنا ) ( 2 ) . وفي علوم الحديث للحاكم : قيل ليحيى بن معين : الأعمش خير أم الزهري ؟ فقال : برئت منه إن كان مثل الزهري ، إنه كان يعمل لبني أمية ، والأعمش مجانب للسلطان ، ورع ( 3 ) . وفي ميزان الذهبي في ترجمة خارجة بن مصعب أنه قال : قدمت على الزهري - وهو صاحب شرطة بني أمية - فرأيته يركب وفي يده حربة ، وبين يديه الناس ، وفي أيديهم الكافر كوبات ! فقلت : قبح الله ذا من عالم ، فلم أسمع منه ( 4 ) . وقد عده ابن حجر في من أكثر من التدليس وقال : وصفه الشافعي والدار قطني وغير واحد بالتدليس ( 5 ) . وقال القاسم بن محمد - من أئمة الزيدية - : أما الزهري فلا يختلف المحدثون وأهل التاريخ في أنه كان مدلسا ( 6 ) ، وأنه كان من أعوان الظلمة بني أمية ، وقد أقروه على شرطتهم ( 7 ) . وقال الشيخ محمد محمد أبو شهبة : اعتبروا من الجرح الذهاب إلى بيوت الحكام ، وقبول جوائزهم ، ونحو ذلك مما راعوا فيه إن الدوافع النفسية قد تحمل صاحبها ‹ صفحة 225 › على الانحراف ( 1 ) . وقد جرح أبو حازم سلمة بن دينار ، الزهري لما أرسل إليه سليمان بن هشام بن عبد الملك ، ومعه ابن شهاب الزهري ، فدخل أبو حازم فإذا سليمان متكئ ، وابن شهاب عند رجليه ، فقال أبو حازم كلمات لاذعة لابن شهاب ، منها قوله : ( إنك نسيت الله ، ما كل من يرسل إلي آتيه ، فلولا الفرق من شركم ما جئتكم . . . ) ( 2 ) ولقد تكلم فيه شيخ أهل الجرح والتعديل يحيى بن معين بكلام خشن - حول قتل الزهري لغلامه - وقال : إنه ولي الخراج لبعض بني أمية ( 3 ) . وقال يحيى بن معين في معرفة رجاله : هجا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود - وكان أعمى - : الزهري وصالح بن كيسان ، ومعاوية بن عبد الله بن جعفر ، في بيت واحد فقال : ليس بإخوان الثقات ابن مسلم * ولا صالح ولا الطويل معاوية ( 4 ) فنفى ابن معين الوثاقة عن الزهري على لسان الشاعر ، وهو لو لم يوافق عليه ولم يعتقده لم ينقله أو لرد عليه ، لكنه لم يفعل . وقال القاسم بن محمد : أليس كان بنو أمية وأتباعهم يلعنون عليا عليه السلام على المنابر ، وابن شهاب يسمع ويرى ، فماله ما يغضب ويظهر علمه ؟ ( 5 ) . وقال السيد مجد الدين المؤيدي : أما كون الزهري من أعوان الظلمة فمما لا خلاف فيه ، وقد قدح فيه نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم . وابن شهاب ممن لا يعدلون ، بطاعة بني أمية ، وتلبيسه وتحريفه - لمكان كثرة ‹ صفحة 226 › وفادته إليهم - معروف ، وهو لسان بني أمية ( 1 ) . وقال المؤيد بالله في شرح التجريد : الزهري عندنا في غاية السقوط ( 2 ) . واستعمل الإمام زين العابدين عليه السلام أساليب عديدة لإتمام الحجة على الزهري ، ليعتبر به هو وأمثاله ، وكان التركيز عليه لكونه أكبر علماء البلاط ، وأعرفهم عند العوام : فمن أساليبه : إسماعه المواعظ في المناجاة . قال الزهري : سمعت علي بن الحسين سيد العابدين يحاسب نفسه ويناجي ربه ، ويقول : حتام إلى الدنيا غرورك : وإلى عمارتها ركونك . . . ؟ ( 3 ) . ولما سأله الزهري : أي الأعمال أفضل عند الله تعالى ؟ فقال عليه السلام : ما من عمل بعد معرفة الله تعالى ومعرفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من بغض الدنيا ، وإن لذلك لشعبا كثيرة ، وللمعاصي شعبا : فأول ما عصي الله به : الكبر . . . ثم الحسد . فتشعب من ذلك حب النساء ، وحب الدنيا ، وحب الرئاسة ، وحب الراحة ، وحب الكلام ، وحب العلو والثروة ، فصرن سبع خصال . فاجتمعن كلهن في حب الدنيا ، فقال الأنبياء والعلماء : ( حب الدنيا رأس كل خطيئة ) والدنيا دنياوان : دنيا بلاغ : ودنيا ملعونة ( 4 ) . ومنها : التنبيه الخاص : قال المدائني : قارف الزهري ذنبا استوحش منه ، وهام على وجهه ، فقال له علي ابن الحسين : يا زهري ، قنوطك من رحمة الله التي وسعت كل شي أعظم عليك من ذنبك . ‹ صفحة 227 › فقال ال
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 220 › ( 1 ) مناقب شهرآشوب ( 3 / 276 ) . ‹ هامش ص 221 › ( 1 ) تحف العقول ( ص 332 ) . ‹ هامش ص 222 › ( 1 ) بلاغة علي بن الحسين عليه السلام ( 224 ) عن الاثني عشرية ، للعاملي . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث 128 ) ومختصره لابن منظور ( 17 : 24 ) . ‹ هامش ص 223 › ( 1 ) شرح نهج البلاغة ( 4 - 102 ) . ( 2 ) شرح نهج البلاغة ( 4 : 102 ) والاعتصام بحبل الله المتين ( 2 : 258 ) . ( 3 ) تهذيب التهذيب ( 4 : 225 ) . ( 4 ) الجامع لأخلاق الراوي ( 2 / 203 ) . ( 5 ) الاعتصام ( 1 : 285 ) . ( 6 ) لاحظ وفيات الأعيان ، لابن خلكان ( 3 : 371 ) . ‹ هامش ص 224 › ( 1 ) رجال المشكاة ، للدهلوي . ( 2 ) رواه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي ( 1 / 530 ) ضمن كلام الفزاري ، ونقل ابن حجر الكلام في ترجمته في تهذيب التهذيب ( 1 / 152 ) إلا أنه حذف هذه الجملة ! ( 3 ) الاعتصام ( 2 : 257 ) ومعرفة علوم الحديث للحاكم ( ص 54 ) . ( 4 ) الاعتصام ( 2 : 257 ) وميزان الاعتدال ( 1 : 625 ) والكامل لابن عدي ( 3 : 922 ) . ( 5 ) تعريف أهل التقديس ( ص 109 ) رقم ( 102 ) . ( 6 ) لاحظ طبقات المدلسين لابن حجر ( ص 15 ) وانظر الجامع لأخلاق الراوي ( 1 : 191 ) الحديث 131 . ( 7 ) الاعتصام ( 2 : 257 ) . ‹ هامش ص 225 › ( 1 ) دفاع عن السنة ( ص 31 ) وانظر قصة حماد بن سلمة مع أمير البصرة ، في الجامع لأخلاق الراوي ( 1 / 7 - 568 ) وحلية الأولياء ( 6 / 249 ) . ( 2 ) الاعتصام ( 2 : 258 ) والكلام بطوله في الإمامة والسياسة ( 2 : 105 - 110 ) . ( 3 ) انظر جامع بيان العلم للقرطبي ( 2 / 160 ) وصرح بأنه ترك الكلام الخشن لأنه لا يليق بمثله ، ولكن لم نجد ذكرا لمثل ذلك في رجال ابن معين ، ولعل الطابعين أيضا تركوا ذلك رعاية لما يليق بالزهري ، وإن كان فيه إساءة إلى ابن معين وإلى التراث بالخيانة فيه . ( 4 ) معرفة الرجال ( 2 / 50 ) رقم ( 80 ) . ( 5 ) الاعتصام ( 2 : 260 ) . ‹ هامش ص 226 › ( 1 ) لوامع الأنوار ( ص 79 ) . ( 2 ) لوامع الأنوار ( ص 110 ) وقد ألف سماحة السيد بدر الدين الحوثي حول ( الزهري ) كتابا حافلا في فصلين ، فليراجع . ( 3 ) إلى آخر ما ذكره عليه السلام . ( 4 ) الكافي ( 2 : 130 ) المحجة البيضاء ( 5 : 365 ) . ‹ هامش ص 227 › ( 1 ) مختصر تاريخ دمشق ( 17 : 245 ) وكشف الغمة ( 2 : 302 ) وبحار الأنوار ( 46 : 7 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث 125 ) ومختصره لابن منظور ( 17 : 246 ) . ( 3 ) شرح نهج البلاغة ( 4 : 102 ) . ( 4 ) الاعتصام ( 2 : 257 ) وانظر نزهة الناظر ( ص 43 ) . ( 5 ) إحياء علوم الدين ( 2 : 143 ) وانظر المحجة البيضاء في إحياء الإحياء ( 3 : 260 ) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 227 - 232
زهري : * ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) * [ الأنعام ( 6 ) الآية ( 124 ) ] فرجع إلى ماله وأهله ( 1 ) . وكان يقول - بعد ذلك - : علي بن الحسين أعظم الناس علي منة ( 2 ) . ومنها : التصغير والتهوين : فحيثما كان الزهري وعروة بن الزبير ينالان من الإمام علي عليه السلام ، بلغ ذلك علي بن الحسين عليه السلام فجاء حتى وقف عليهما ، وقال : أما أنت يا عروة ، فإن أبي حاكم أباك إلى الله فحكم لأبي على أبيك . وأما أنت يا زهري ، فلو كنت بمكة لأريتك كير أبيك ( 3 ) . ومنها : التكذيب لتزلفاته : ففي الحديث أن الزهري قال لعلي بن الحسين عليه السلام : كان معاوية يسكته الحلم ، وينطقه العلم ! فقال الإمام عليه السلام : كذبت يا زهري ، كان يسكته الحصر ، وينطقه البطر ( 4 ) . ومنها : الرسالة التي وجهها الإمام عليه السلام إليه : ويبدو أن الزهري لم يأبه بكل النصائح والتوجيهات السابقة ، فتوغل في دوامة الحكم الغاشم ، والتحق بالبلاط الشامي ، فلم يتركه الإمام عليه السلام ، بل أرسل إليه رسالة دامغة ، يصرح فيها بكل أغراضه ، ويكشف له ، ولأمثاله ، أخطار الاتصال بالأجهزة الظالمة . وقد رواها العامة والخاصة ، ونص الغزالي على أنها كتبت إلى الزهري ( لما خالط السلطان ) ( 5 ) . ‹ صفحة 228 › ورواها من أعلامنا ابن شعبة ، ونعتمد نسخته هنا ( 1 ) قال : كتابه عليه السلام إلى محمد بن مسلم الزهري ، يعظه : كفانا الله ، وإياك ، من الفتن ، ورحمك من النار ، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك ، فقد أثقلتك نعم الله بما أصح من بدنك ، وأطال من عمرك ، وقامت عليك حجج الله بما حملك من كتابه ، وفقهك من دينه ، وعرفك من سنة نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم فرضي لك - في كل نعمة أنعم بها عليك ، وفي كل حجة احتج بها عليك - الفرض بما قضى ، فما قضى إلا ابتلى شكرك في ذلك ، وأبدى فيه فضله عليك ، فقال : * ( لئن شكرتم لأزيدنكم ، ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ) * [ إبراهيم ( 14 ) الآية ( 7 ) ] . فانظر : أي رجل تكون غدا إذا وقفت بين يدي الله ! فسألك عن نعمه عليك : كيف رعيتها ؟ وعن حججه عليك : كيف قضيتها ؟ ولا تحسبن الله قابلا منك بالتعذير ، ولا راضيا منك بالتقصير ! هيهات ! هيهات ! ليس كذلك أخذ على العلماء في كتابه إذ قال : * ( لتبيننه للناس ولا تكتمونه ) * [ آل عمران ( 3 ) الآية ( 187 ) ] . واعلم أن أدنى ما كتمت ، وأخف ما احتملت أن آنست وحشة الظالم ، وسهلت له طريق الغي بدنوك منه حين دنوت ، وإجابتك له حين دعيت ! فما أخوفني أن تبوء بإثمك غدا ، مع الخونة ، وأن تسأل عما أخذت بإعانتك على ظلم الظلمة ، إنك أخذت ما ليس لك ممن أعطاك ، ودنوت ممن لم يرد على أحد حقا ، ولم ترد باطلا حين أدناك ، وأحببت من حاد الله ! أوليس بدعائهم إياك حين دعوك جعلوك قطبا أداروا بك رحى مظالمهم ، وجسرا يعبرون عليك إلى بلاياهم ، وسلما إلى ضلالتهم . داعيا إلى غيهم ، سالكا سبيلهم ، يدخلون بك الشك على العلماء ، ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم . فلم يبلغ أخص وزرائهم ، ولا أقوى أعوانهم إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم ، ‹ صفحة 229 › واختلاف الخاصة والعامة إليهم . فما أقل ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك ، وما أيسر ما عمروا لك في كنف ما خربوا عليك ؟ فانظر لنفسك ، فإنه لا ينظر لها غيرك ، وحاسبها حساب رجل مسؤول . وانظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيرا وكبيرا ؟ فما أخوفني أن تكون كما قال الله في كتابه : * ( فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا ) * [ الأعراف ( 7 ) الآية ( 169 ) ] . إنك لست في دار مقام ، أنت في دار قد آذنت برحيل ، فما بقاء المرء بعد قرنائه ؟ . طوبى لمن كان في الدنيا على وجل ، يا بؤس من يموت وتبقى ذنوبه من بعده . احذر فقد نبئت ، وبادر فقد أجلت . إنك تعامل من لا يجهل ، وإن الذي يحفظ عليك لا يغفل . تجهز فقد دنا منك سفر بعيد ، وداو دينك فقد دخله سقم شديد . ولا تحسب أني أردت توبيخك وتعنيفك وتعييرك ، لكني أردت أن ينعش الله ما فات من رأيك ، ويرد إليك ما عزب من دينك ، وذكرت قول الله تعالى في كتابه : * ( وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) * [ الذاريات ( 51 ) الآية ( 55 ) ] . أغفلت ذكر من مضى من أسنانك وأقرانك ، وبقيت بعدهم كقرن أعضب . انظر : هل ابتلوا بمثل ما ابتليت به ؟ أم هل وقعوا في مثل ما وقعت فيه ؟ أم هل تراهم ذكرت خيرا أهملوه ؟ وعلمت شيئا جهلوه ؟ . بل : حظيت بما حل من حالك في صدور العامة ، وكلفهم بك ، إذ صاروا يقتدون برأيك ، ويعملون بأمرك ، إن أحللت أحلوا ، وإن حرمت حرموا ، وليس ذلك عندك ، ولكن أظهرهم عليك رغبتهم في ما لديك ذهاب علمائهم ، وغلبة الجهل عليك وعليهم ، وحب الرئاسة ، وطلب الدنيا منك ومنهم . أما ترى ما أنت فيه من الجهل والغرة ؟ وما الناس فيه من البلاء والفتنة ؟ قد ابتليتهم ، وفتنتهم بالشغل عن مكاسبهم مما رأوا ، فتاقت نفوسهم إلى أن يبلغوا من العلم ما بلغت ، أو يدركوا به مثل الذي أدركت ، فوقعوا منك في بحر لا يدرك عمقه ، وفي ‹ صفحة 230 › بلاء لا يقدر قدره . فالله لنا ولك ، وهو المستعان . أما بعد : فأعرض عن كل ما أنت فيه حتى تلحق بالصالحين الذين دفنوا في أسمالهم ، لاصقة بطونهم بظهورهم ، ليس بينهم وبين الله حجاب ، ولا تفتنهم الدنيا ، ولا يفتنون بها . رغبوا ، فطلبوا ، فما لبثوا أن لحقوا . فإن كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا المبلغ ، مع كبر سنك ، ورسوخ علمك ، وحضور أجلك ، فكيف يسلم الحدث في سنه ؟ الجاهل في علمه ؟ المأفون في رأيه ؟ المدخول في عقله ؟ إنا لله وإنا إليه راجعون . على من المعول ؟ وعند من المستعتب ؟ نشكو إلى الله بثنا ، وما نرى فيك ، ونحتسب عند الله مصيبتنا بك ! فانظر : كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيرا وكبيرا ؟ وكيف إعظامك لمن جعلك بدينه في الناس جميلا ؟ وكيف صيانتك لكسوة من جعلك بكسوته في الناس ستيرا ؟ وكيف قربك أو بعدك ممن أمرك أن تكون منه قريبا ذليلا ؟ مالك لا تنتبه من نعستك ؟ وتستقيل من عثرتك ؟ فتقول : والله ما قمت لله مقاما واحدا أحييت به له دينا ! أو أمت له فيه باطلا ؟ ! فهذا شكرك من استحملك ؟ ما أخوفني أن تكون كما قال الله تعالى في كتابه : * ( أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ، فسوف يلقون غيا ) * [ مريم ( 19 ) الآية ( 59 ) ] . استحملك كتابه ، واستودعك علمه ، فأضعتهما ! فنحمد الله الذي عافانا مما ابتلاك به ! والسلام ( 1 ) . ‹ صفحة 231 › إن هذه الرسالة تدل على سياسة الإمام عليه السلام من جهتين : فأولا : محتواها يدل على أن الإمام كان يراقب الأوضاع بدقة فائقة ، فهو يضع النقاط على مواضعها من الحروف ، ولا تشذ عنه صغار الأمور فضلا عن كبارها ؟ ومثل هذا لا يصدر إلا ممن لم ينعزل عن الحياة الاجتماعية ، ولم يزهد في السياسة . وثانيا : إن إرسال مثل هذه الرسالة إلى الزهري ، وهو من أعيان علماء البلاط ، لا بد أن لا تخفى عن أعين الحكام ، أو على الأقل يحتمل أن يرفعها الزهري إلى أسياده من الحكام ! وفي هذا من الخطورة على الإمام الذي أرسل الرسالة ما هو واضح وبين ، وقد وصفهم فيها بالظلم والفساد ، ونهى ، وحذر ، وحاول صرف الزهري عن اصطحابهم . فالسياسة تطفح من جمل هذه الرسالة . لكن الإمام عليه السلام - في هذه المرحلة - لا يأبه بكل الاحتمالات ، والأخطار المتوقعة ، بل يصارح أعوان الظلمة بكل ما يجب إعلانه من الحق ، كما صارح الظالمين أنفسهم بالمواجهة ، والاستفزاز . وقد وقفنا على شئ من مواجهة الإمام عليه السلام للمتظاهرين بالزهد والصلاح ممن كان يميل باطنا إلى الدنيا ، ويحب الرئاسة والوجاهة ، وأوضح مصاديق ذلك : هم علماء البلاط ووعاظ السلاطين الذين ارتبطوا بالولاة والحكام ، ليستمتعوا باللذات من خلال الحضور معهم ، والتطفل على موائدهم . ‹ صفحة 232 › ثالثا : موقفه من الحركات المسلحة كان الإمام زين العابدين عليه السلام يخطو نحو أهدافه بحذر تام ، ووعي كامل ، لا يثير انتباه الحكام والولاة المغرورين ، كي لا يقضوا على حركته وهي في المهد . فهم ، بانهماكهم في ترفهم واغترارهم بقدراتهم ، كانوا بعيدين عن الأجواء التي يصنعها الإمام عليه السلام ، فكانوا يعدون مواقفه شخصية خاصة وفردية ، بل يستوحون منها الانصراف عن التصدي لأي نشاط سياسي . فلذلك لم يظهر الإمام انتماءا إلى أية حركة معارضة للدولة ، ولم يسمح لها أن تتصل بالإمام ، سواء الحركات المتحببة إليه ، كحركة التوابين وحركة المختار ، أو الحركات المحايدة كحركة أهل الحرة ، أم المعادية له كحركة ابن الزبير في مكة والعراق ! لكن الآثار تشير إلى أن الإمام عليه السلام لم يكن في معزل عن تلك الحركات ، سلبا أو إيجابا ، حسب قربها أو بعدها عن الأهداف الأساسية التي كان الإمام وراء تحقيقها وتثبيتها . فهو من جهة كان يركز على خططه العميقة والواسعة ، بالشكل الذي يغرر بالحكام الأمويين بصحة تصوراتهم عن شغله وشخصه ، حتى أعلنوا عنه أنه ( الخير ) . ولعل رجال الدولة كانوا في رغبة شديدة في الاحتفاظ بهذا التصور ، حتى لا يتورطوا مع آل أبي طالب بأكثر مما سبق ، وليتفرغوا لغير الإمام زين العابدين عليه السلام ممن أعلن الثورة والمعارضة لهم كابن الزبير ، فلذا نشروا هذا المعنى في عملية تحريف ، ليدفعوا مجموعة من الناس للمشي بسيرة الإمام عليه السلام . وقد وقف كتاب من مؤرخي عصرنا الحاضر على هذه الآثار ، فأعلنوا : ( أن الإمام عليه السلام تبنى مسلكا ، يرفض فيه كل تحرك مناهض للسلطة ، ويبتعد عن كل
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 227 › ( 1 ) مختصر تاريخ دمشق ( 17 : 245 ) وكشف الغمة ( 2 : 302 ) وبحار الأنوار ( 46 : 7 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث 125 ) ومختصره لابن منظور ( 17 : 246 ) . ( 3 ) شرح نهج البلاغة ( 4 : 102 ) . ( 4 ) الاعتصام ( 2 : 257 ) وانظر نزهة الناظر ( ص 43 ) . ( 5 ) إحياء علوم الدين ( 2 : 143 ) وانظر المحجة البيضاء في إحياء الإحياء ( 3 : 260 ) . ‹ هامش ص 228 › ( 1 ) تحف العقول ( ص 274 ) والمحجة البيضاء ( 3 : 260 ) . ‹ هامش ص 230 › ( 1 ) روى الرسالة في تحف العقول ( 274 - 277 ) ورواها الحائري في : بلاغة علي بن الحسين عليه السلام ( ص 122 - 126 ) ورواها المقرم في : الإمام زين العابدين ( ص 4 - 159 ) ولاحظ إحياء علوم الدين للغزالي ( 2 : 143 ) . ‹ هامش ص 232 › ( 1 ) الإمام السجاد عليه السلام لحسين باقر ( ص 98 ) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 232 - 238
شاط معاد لها ) ( 1 ) . مع أن الإمام زين العابدين عليه السلام كان يهدف من خلال مواقفه - حتى العبادية - ‹ صفحة 233 › والعلمية والشخصية منها - إلى تثبيت مخططاته السياسية كما عرفنا في الفصول السابقة . وكان مع ذلك يتعامل مع الحركات السياسية الأخرى بشكل مدروس ومدبر ، حسب المواقع والظروف : فبالنسبة إلى حركة الحرة : وجدنا الإمام عليه السلام قد أحرز أنها حركة لم تنبع عن مبدأ يتفق وضرورات الموقف الإسلامي الصحيح ، فلا القائمون بها كانوا من العارفين بحق الإمام عليه السلام ، ولا خططهم المعلنة كانت أساسية ، ولا أهدافهم كانت واضحة أو مدروسة ، وأهم ما كانت عليه خطورة الموقع الذي اختاروه للتحرك ، وهو ( المدينة ) فقد عرضوها للجيش الشامي الملحد ، ليدنس كرامتها ويستهين بمقدساتها . وقد عرفنا أن الإمام عليه السلام اتخذ موقف المنجي للمدينة المنكوبة ولأهلها الذين استباح حرماتهم الجيش الأموي . ولم تكن حركة الحرة تتبع أمر الإمام عليه السلام ولا قيادته بل ولا إشرافه ، بل كان الإمام عليه السلام يومها في فترة لملمة قواه وتهيئة وضعه ، والتأهب لخطته المستقبلية . كما سبق حديث عن ذلك كله في الفصل الأول ( 1 ) . وأما فتنة ابن الزبير : فمع أن ابن الزبير لم يكن بأولى من ابن مروان ، في الحكم والسيطرة ، وأن طموحاته المشبوهة كانت مرفوضة لدى أهل الحق ، وخاصة للعلويين وعلى رأسهم الإمام زين العابدين عليه السلام . ومع ما كان عليه من الحقد والعداء لآل علي عليه السلام ( 2 ) ذلك الذي بدأه في حياته بدفع أبيه في أتون حرب الجمل ، وقد حمله الإمام الصادق عليه السلام ذلك الوزر في كلمته ‹ صفحة 234 › الشهيرة : ( ما زال الزبير منا أهل البيت حتى أدرك فرخه فنهاه عن رأيه ) ( 1 ) . وبدأ في عهد سطوته العداء لآل محمد عليهم السلام بصورة مكشوفة لما هدد مجموعة منهم بالإحراق عليهم في شعب أبي طالب بمكة ( 2 ) . وبلغ به حقده أن منع الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائلا : ( إن له ( أهيل سوء ) يشمخون بأنوفهم ) حسب تعبيره الوقح ( 3 ) . وكان - بحكم معرفته بموقعية الإمام السجاد عليه السلام - يضع العيون على الإمام يراقبون تصرفاته ( 4 ) . وقد قتل أخوه مصعب الشيعة بالعراق ، حتى النساء ( 5 ) . فلذلك كان الإمام يظهر التخوف من فتنته ( 6 ) . ولعل من أوضح مبررات الإمام في تخوفه من فتنة ابن الزبير أنه اتخذ مكة موقعا لحركته ، مما يؤدي عند اندحاره إلى أن يعتدي الأمويون على هذه البلدة المقدسة الآمنة ، وعلى حرمة البيت الحرام والكعبة الشريفة ؟ وقد حصل ذلك فعلا . مع أن علم الإمام عليه السلام بفشل حركته لضعفه وقلة أنصاره بالنسبة إلى جيوش الدولة الجرارة ، كان من أسباب امتناع الإمام ومعه كل العلويين من الاعتراف بحركة ابن الزبير . وهو كان يؤكد على أخذ البيعة منهم لكسب الشرعية أولا ، ولجرهم معه إلى هاوية الفناء والدمار في ما لو اندحر ، وقد كان متوقعا ذلك ، فيقضي على آل ‹ صفحة 235 › محمد عليهم السلام فيكون قد وصل إلى أمنيته القديمة . إن الإمام عليه السلام بإظهاره التخوف من فتنة ابن الزبير ، كان قد أحبط كل أهداف ابن الزبير وأمانيه الخبيثة تلك . كما أن في هذا التصرف تهدئة لوغر صدور الأمويين ضد آل محمد عليهم السلام وشيعتهم ، تمهيدا لتثبيت العقيدة وترسيخ قواعدها . وبهذا حدد الإمام عليه السلام موقفه من الحركات البعيدة عن خط الإمامة ، والتي لم تنتهج اتباع الإسلام المحمدي الخالص الذي يحمله أئمة أهل البيت عليهم السلام . فهو لم يظهر تجاهها ما يستفيده الأمويون ، كما لم يؤيدها بحيث تكون ذريعة للأمويين على محاسبة الإمام عليه السلام . ولا قام بما يعتبر وسيلة يتشبث بها أولئك المتحركون غير الأصيلين في الفكر والعقيدة ، والمشبوهون في الأهداف والمنطلقات . فاتخذ الإمام من هذه الحركات موقف الحزم والحيطة ، فهي وإن لم تكن على المعلوم من الحق إلا أنها كانت معارضة للمعلوم من الباطل الحاكم ، ومؤدية إلى تضعيفه وزعزعته ، وتحديد سطوته . والإمام عليه السلام لا يهدف إلى مجرد إحداث البلبلة ، وتعويض فاسد بفاسد ، أو نقل السلطة من ابن مروان ، إلى ابن الزبير ، أو ابن الأشعث ، أو غيرهم من المتصدين للحكم بالباطل ، فتركهم الإمام عليه السلام يشتغل بعضهم ببعض حتى ينكشف للأمة زيف دعواهم الإمامة والخلافة ، ويظهر للأمة أنهم - جميعا - لا يطلبون إلا الحكم والسلطة ، دون صلاح الإسلام وإصلاح ما فسد من أمور المسلمين . وأما موقفه من الحركات الأخرى : فهي بفرض أنها قامت بشعارات حقة . كحركة التوابين في عين الوردة ، وشعارهم ( يا لثارات الحسين ) ( 1 ) وهم الذين تحالفوا على بذل نفوسهم وأموالهم في الطلب بثأر الحسين عليه السلام ومقاتلة قتلته وإقرار ‹ صفحة 236 › الحق مقره في رجل من آل بيت نبيهم صلوات الله عليه وسلامه ( 1 ) . وكحركة المختار الذي كتب إلى الإمام علي بن الحسين السجاد عليه السلام يريده على أن يبايع له ، ويقول بإمامته ، ويظهر دعوته ، وأنفذ إليه مالا كثيرا ( 2 ) وتتبع قتلة الحسين عليه السلام فقتلهم ( 3 ) . ولكن الإمام عليه السلام كان حكيما في تعامله مع المتحركين أولئك ، فلم يعلن عن ارتباطه المباشر بهم ، وكذلك لم يعلن عن رفض حركتهم كما واجه ابن الزبير ، بل أصدر بيانا عاما ، يصلح لتبرير الحركات الصالحة ، من دون أن يترك آثارا سيئة على الإمام عليه السلام : فقال لعمه محمد بن الحنفية : ( يا عم ، لو أن عبدا تعصب لنا أهل البيت ، لوجب على الناس مؤازرته ، وقد وليتك هذا الأمر ، فاصنع ما شئت ) ( 4 ) . إن تولية الإمام عليه السلام لعمه في القيام بأمور الحركات الثورية تلك كان هو الطريق الأصلح ، حيث أن محمد بن الحنفية لم يكن متهما من قبل الدولة بالمعارضة ، ولم يعرف منه ما يشير إلى التصدي للإمامة لنفسه ، بينما الإمام عليه السلام كانت الدولة تتوجس منه خيفة باعتباره صاحب الدم في كربلاء ، والمؤهل للإمامة ، لعلمه وتقواه وشرفه ، ولم يخف على عيون الدولة أن جمعا من الشيعة يعتقدون الإمامة له . وبذلك كان الإمام عليه السلام قد حافظ على وجوده من أذى الأمويين واستمر على رسم خططه والتأكيد على منهجه لإحياء الدين وتهيئة الأرضية للحكم العادل . وهو مع ذلك لم يقطع الدعم عن تلك الحركات التي انتهجت الثأر لأهل البيت عليهم السلام . فلما أرسل المختار برؤوس قتلة الإمام الحسين عليه السلام إلى الإمام السجاد عليه السلام ، خر الإمام ساجدا ، ودعا له ، وجزاه خيرا ( 5 ) . ‹ صفحة 237 › وقام أهل البيت كافة بإظهار الفرح ، وترك الحداد والحزن ، مما يدل على تعاطفهم - عمليا ، وعلنيا - مع المختار وحركته . ولو نظرنا إلى هذا العمل ، نجده لا يثير من الأمويين كثيرا من الشكوك تجاه الإمام ، إذ من الطبيعي أن يفرح الموتور بقتل ظالمه ، ويدعو لمن قتله وانتقم منه وثأر لدماء الشهداء ! خصوصا ، إذا اقترن مع رفض الإمام عليه السلام لقبول هدايا المختار المادية ( 1 ) . فإن ذلك يدل بوضوح على أن الإمام عليه السلام لا يريد التورط سياسيا مع حركة بعيدة عنه جغرافيا ، ولم تلتق مع أهدافه البعيدة المدى حضاريا وتاريخيا . ولا تعدو أن تكون فوزا أو بروزا مقطعيا فقط . وأما ما ورد عن الإمام زين العابدين عليه السلام من أحاديث في ذم المختار أو لعنه : فالذي يوجهه أن الحكام الظلمة - عامة - وبني أمية - خاصة - استعملوا أساليب التزوير والاتهامات الباطلة ضد معارضيهم بغرض إسقاط المعارضة في نظر العامة . قد استهدفوا شخص المختار و أصحابه بأشكال من الاتهامات التي تعبر على أذهان العوام ، مثل السحر والشعوذة ، كما اتهموه بدعوى النبوة ، والألوهية ، وما أشبه ذلك من الخرافات ، سعيا في إبطال مفعول حركته ، وإبعاد الناس عنه ، والتشويش على نداءاته وشعاراته بالطلب بثارات الحسين عليه السلام وتأسفه على قتله ، وإعلانه عن هوية القاتلين ، وحمايته لبني هاشم من الأذى . ولقد تواترت أخبار البلاطيين ، واتهامهم إياه على طريقة ( إكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس ) وقد ملئت الصحف والكتب والأخبار بتلك الأكاذيب ، حتى صدقها الناس فعلا ! ! وإذا كان المختار بتلك المنزلة التي أبداها الحكام والنقلة والرواة والمؤرخون ، وكان من أخبارهم الموحشة عنه ما ملأ مسامع الناس وأفكارهم : أنه ساحر ، كذاب على الله ورسوله ، مدع للنبوة ، وما إلى ذلك من الترهات والأكاذيب . إذا كان المختار عند العامة بهذه المنزلة ، فهل يجوز للإمام عليه السلام أن يدافع - علنا - عن ‹ صفحة 238 › حركته ؟ ! أو أن يسكت إذا سئل عنه ؟ ! إن إظهار التعاطف معه ، ولو بأدنى شكل ، كانت الدولة تستغله لضرب الإمام عليه السلام وتشويه سمعته عند العامة العمياء . فلا نستبعد أن يكون الإمام عليه السلام قد أصدر ضد ما يعرفه الناس عن المختار ، ما يبرئ ساحة الإمام عليه السلام من الموافقة عليه ، أو السكوت عنه ، ففي الخبر : قام الإمام عليه السلام على باب الكعبة ! يلعن المختار ! فقال له رجل : يا أبا الحسين ، لم تسبه ؟ وإنما ذبح فيكم ؟ ! قال الإمام عليه السلام : إنه كان كذابا ، يكذب على الله ورسوله ( 1 ) فلو صح هذا الخبر ، فإن وقوف الإمام عليه السلام على باب الكعبة ، وإعلانه بهذا الشكل عن ذم المختار ولعنه ، لا يخلو من قصد - أكثر من مجرد اللعن - حيث أن في ذلك دلالة واضحة على إرادة مجرد الإعلان بذلك وتبيينه للناس . وفي قول المعترض : ( ذبح فيكم ) الهدف السياسي من تلطيخ سمعة أهل البيت عليهم السلام وتوريطهم بما لطخوا به سمعة المختار . إذ لا يصدر مثل هذا الاعتراض ، وهذا الإعلان ، عن شخص غير مغرض في مثل ذلك الموقف . ثم إن ما ورد من أمثال هذه الأحاديث ، المشتملة على ذم المختار من قبل أهل البيت عليهم السلام ورواتهم ، إنما رواها رجال الدولة وكتابهم ومؤرخو البلاط ، مما يدل على أن المستفيد الوحيد من ترويجها هم أولئك الذين يرتزقون من الارتباط بالدولة .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 232 › ( 1 ) الإمام السجاد عليه السلام لحسين باقر ( ص 98 ) . ‹ هامش ص 233 › ( 1 ) لاحظ ( ص 65 - 72 ) من هذا الكتاب . ( 2 ) فقد قال لابن عباس : إني لأكتم بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة . مروج الذهب ( 3 : 84 و 89 ) وانظر تاريخ اليعقوبي ( 2 : 261 ) . ‹ هامش ص 234 › ( 1 ) أرسله الصدوق في الخصال ( ص 157 ) باب الثلاثة ح 199 . ( 2 ) تاريخ اليعقوبي ( 2 : 261 ) وسير أعلام النبلاء ( 4 : 118 ) وطبقات ابن سعد ( 5 : 100 ) ومروج الذهب ( 3 : 85 ) . ( 3 ) تاريخ اليعقوبي ( 2 : 261 ) مروج الذهب ( 3 : 88 ) . ( . ( 4 ) شرح رسالة الحقوق ، لعبد الهادي المختار ( ص 102 ) . ( 5 ) مروج الذهب ( 3 : 107 ) وتاريخ اليعقوبي ( 2 / 264 ) . ( 6 ) الكافي ( ) التوحيد للصدوق ( ص 374 ) وشرح الأخبار ( 3 : 261 ) وبحار الأنوار ( 46 : 37 و 145 ) . وحلية الأولياء ( 3 / 134 ) . ‹ هامش ص 235 › ( 1 ) أيام العرب في الإسلام ( ص 436 ) . ‹ هامش ص 236 › ( 1 ) الفخري في الآداب السلطانية ( ص 104 ) . ( 2 ) مروج الذهب ( 3 : 83 ) . ( 3 ) مروج الذهب ( 3 : 84 ) ( 4 ) بحار الأنوار ( 45 / 365 ) وانظر أصدق الأخبار للسيد الأمين ( ص 39 ) والمختار الثقفي ، لأحمد الدجيلي ( ص 39 ) ( 5 ) رجال الكشي ( ص 125 و 127 ) وشرح الأخبار ( 3 : 270 ) وتاريخ اليعقوبي ( 2 : 259 ) . ‹ هامش ص 237 › ( 1 ) مروج الذهب ( 3 : 83 ) ورجال الكشي ( ص 126 ) رقم ( 200 ) . ‹ هامش ص 238 › ( 1 ) مختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 17 : 243 ) . ( 2 ) مروج الذهب ( 3 : 107 ) وانظر تاريخ اليعقوبي ( 2 : 264 ) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 238 - 248
ا لو صحت تلك الأحاديث والنقول . وإلا ، فهل يشك أحد من دارسي التاريخ في أن المختار تحرك بشعار الأخذ بثارات الحسين عليه السلام وقد وصفه زوجتاه - بعد قتله - بأنه ( رجل يقول ربي الله ، كان صائم نهاره ، قائم ليله ، قد بذل دمه لله ولرسوله في طلب قتلة ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهله وشيعته ، فأمكنه الله منهم حتى شفى النفوس ) ( 2 ) . ‹ صفحة 239 › وقتل معه سبعة آلاف رجل كلهم طالبون بدم الحسين ( 1 ) . أليس ما قام به المختار من أخذ الثار ، مكرمة تدعو إلى السكوت عنه ، على الأقل ؟ ! ولقد ذكر الإمام الباقر عليه السلام بمثل هذا في حديثه عن المختار لما دخل عليه أبو الحكم ابن المختار ، فتناول يد الإمام ليقبلها فمنعه ، ثم قال له : أصلحك الله ، إن الناس قد أكثروا في أبي وقالوا ، والقول - والله - قولك ! . . . ولا تأمرني بشئ إلا قبلته . فقال الإمام : سبحان الله ! أخبرني أبي - والله - أن مهر أمي كان مما بعث به المختار . أولم يبن دورنا ، وقتل قتلتنا ، وطلب بدمائنا ، فرحمه الله . وأخبرني - والله - أبي : أنه كان ليسمر عند فاطمة بنت علي يمهدها الفراش ويثني لها الوسائد ، ومنها أصاب الحديث . رحم الله أباك ، رحم الله أباك ، ما أصاب لنا حقا عند أحد إلا طلبه . . . . ( 2 ) وعلى حد قول ابن عباس - لما طلب منه سب المختار - : ذاك رجل قتل قتلتنا ، وطلب ثأرنا وشفى غليل صدورنا ، وليس جزاؤه منا الشتم والشماتة ( 3 ) . إن خروج الإمام زين العابدين عليه السلام من أزمة الحركات المعارضة للدولة ، على اختلاف مواقفها تجاه الإمام ، من موالية ، ومحايدة ، ومعادية ، وبالشكل الذي لا يترك أثرا سلبيا عليه ، ولا يحمله مسؤولية ، ولا تستفيد الأطراف المتنازعة من موقعه كإمام ، وككبير أهل البيت عليه السلام ، ولا تتضرر أهدافه وخططه التي رسمها لإحياء الدين . إن الخروج من مثل هذا المأزق ، وبهذه الصورة ، عمل جبار لا بد أن يعد من أخطر مواقف الإمام السياسية ، ويستحق دراسة معمقة لمعرفة أسسه ، وأبعاده . وبعد : إن ما بذله الإمام السجاد عليه السلام من جهود وجهاد في سبيل الله ، وما قام به من ‹ صفحة 240 › فرض الإمامة وواجب الولاية تجاه الدين والأمة ، مع اقتران المهمة بظروف صعبة وحرجة للغاية ، حيث ملئت الأجواء بالرعب والردة والانحراف عن القيم والموازين والأعراف ، سواء الدينية ، أم الأخلاقية ، بل حتى الإنسانية ! إن ما بذله الإمام عليه السلام في سبيل القيام بالمهمة تم بأفضل ما يتصور ، فقد رسم لمخططاته خطة عمل ناجحة بحيث مهد الأرضية لتجديد معالم التشيع ، ممثلا لكل ما للإسلام من مجد وعدل وعلم وحكمة ، لهو عمل عظيم ، يدعو إلى الإعجاب والفخر والتمجيد ، ويجعل من الإمام عليه السلام في طليعة القواد السياسيين الخالدين . ولقد حق له عليه السلام أن يكلل تلك الحياة العظيمة بالطمأنينة التي ملأت وجوده الشريف عندما حضر ، فأغمض عينيه حين الوفاة ، وفتحهما ليقول كلمته الأخيرة ، فيقرأ * ( الحمد لله الذي صدقنا وعده ، وأورثنا الأرض ، نتبوأ من الجنة حيث نشاء ، فنعم أجر العاملين ) * . [ سورة الزمر ( 39 ) الآية 74 ] ثم قبض من ساعته ( 1 ) . فسلام الله عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيا . وكما كانت نتائج الثورة الحسينية في كربلاء تتبلور في انتصار الإسلام باستمرار شعائره وعدم تمكن الأعداء من القضاء عليها ، بالرغم من استشهاد الصفوة من خيرة المسلمين وعلى رأسهم الإمام أبو عبد الله الحسين السبط الشهيد عليه السلام وأهل بيته وشيعته ، فإن الظلمة لم يتمكنوا من محو الإسلام ، بل بقي مستمرا ، ممثلا في أذانه وصلاته وكعبته وسائر أصوله وضرورياته . وقد أعلن الإمام السجاد عليه السلام عن هذه الحقيقة ، وأبرز هذه النتيجة في ما أجاب به إبراهيم بن طلحة بن عبيد الله ، حين قدم علي بن الحسين عليه السلام وقد قتل الحسين صلوات الله عليه استقبله إبراهيم وقال : يا علي بن الحسين ، من غلب ؟ وهو مغط رأسه وهو في المحمل - فقال له علي بن الحسين : إذا أردت أن تعلم من غلب ، ودخل وقت الصلاة ، فأذن ثم أقم ( 2 ) . فإن الإمام عليه السلام جعل استمرار الشعائر التي تذكر فيها شهادة التوحيد والرسالة ‹ صفحة 241 › علنا وعلى رؤوس الأشهاد دليلا على انتصار الحسين عليه السلام وغلبته ، وهذا من أعظم العبر لمن اعتبر ! فكذلك تبلورت نتائج مخططات الإمام السجاد عليه السلام في إحياء التشيع من جديد ، والتمهيد لقيام أولاده الأئمة عليهم السلام بالحركات التجديدية المتتالية . ‹ صفحة 243 ›





 

رد مع اقتباس