عرض مشاركة واحدة
قديم 12-24-2010, 10:05 PM   #11
الشيخ حسن العبد الله
مشرف


الصورة الرمزية الشيخ حسن العبد الله
الشيخ حسن العبد الله غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 232
 تاريخ التسجيل :  Nov 2010
 أخر زيارة : 03-18-2014 (09:42 PM)
 المشاركات : 352 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue
افتراضي



وأخيرا :
مع كتاب ( رسالة الحقوق ) إن رسالة الحقوق التي نظمها الإمام زين العابدين عليه السلام تدل على اهتمام الإمام بكل ما يدور حوله في المجتمع الإسلامي ، وعنايته الفائقة بسلامته النفسية والصحية ، ورعايته لأمنه واستقراره ، وحفاظه على تكوينته الإسلامية . وإذا نظرنا إلى ظروف الإمام عليه السلام من جهة ، وإلى ما يقتضيه تأليف هذه الحقوق ، من سعة الأفق وشموليته من جهة أخرى ، وقفنا على عظمة هذا العمل الجبار الذي صنعه الإمام قبل أربعة عشر قرنا . إن صنع مثل هذا القانون في جامعيته ودقته وواقعيته ، لا يصدر إلا من شخص جامع للعلم والعمل ، مهتم بشؤون الأمة ، ومتصد لإصلاحها فكريا وثقافيا ، واقتصاديا ، واجتماعيا ، وإداريا ، وصحيا ، ونفسيا ، ولا يصدر - قطعا - من شخص منعزل عن العالم ، وعن الحياة الاجتماعية ، ولا مبتعد عن السياسة وأمور الحكم والدولة ! ولذلك فإنا نجد الرسالة تحتوي على حقوق مثل : حق السلطان ، وحق الرعية ، وحق أهل الملة عامة ، وحق أهل الذمة ، وغيرها مما يرتبط بأمور الدولة والحكم وتنظيم الحياة الاجتماعية ، إلى جانب الشؤون الخاصة العقيدية والعبادية والمالية ، وكل ما يرتبط بحياة حرة كريمة للفرد وللمجتمع الذي يعيش معه ، ومثل هذا لا يصدر ممن يعتزل الحياة الاجتماعية . ورسالة الحقوق عمل علمي عظيم يستدعي دراسة موضوعية عميقة شاملة ، نقف من خلالها على أبعاد دلالتها على حركة الإمام زين العابدين عليه السلام الاجتماعية ، وخاصة من المنظار السياسي ، وما استهدفه من بيانها ونشرها . ونقدم هنا مقطعين هامين ، يرتبطان مباشرة بأمور الإدارة والحياة الاجتماعية ، وهما حق السلطان على الرعية ، وحق الرعية على السلطان : قال عليه السلام - في حقوق الأئمة - : وأما حق سائسك بالسلطان : ‹ صفحة 152 › فإن تعلم أنك جعلت له فتنة ، وأنه مبتلى فيك بما جعله الله له عليك من السلطان . وأن تخلص له في النصيحة ، وأن لا تماحكه ، وقد بسطت يده عليك ، فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه . وتذلل وتلطف لإعطائه من الرضا ما يكفه عنك ، ولا يضر بدينك ، وتستعين عليه في ذلك بالله . ولا تعازه ولا تعانده ، فإنك إن فعلت ذلك عققته وعققت نفسك ، فعرضتها لمكروهه ، وعرضته للهلكة فيك ، وكنت خليقا أن تكون معينا له على نفسك ، وشريكا له في ما أتى إليك من سوء . ولا قوة إلا بالله ( 1 ) . وقال عليه السلام - في حقوق الرعية - : وأما حق رعيتك بالسلطان : فإن تعلم أنك إنما استرعيتهم بفضل قوتك عليهم ، فإنه إنما أحلهم محل الرعية لك ضعفهم وذلهم . فما أولى من كفاكه ضعفه وذله - حتى صيره لك رعية وصير حكمك عليه نافذا ، لا يمتنع عنك بعزة ولا قوة ، ولا يستنصر في ما تعاظمه منك إلا بالله - بالرحمة والحياطة والأناة . وما أولاك - إذا عرفت ما أعطاك الله من فضل هذه العزة والقوة التي قهرت بها - أن تكون لله شاكرا ، ومن شكر الله أعطاه في ما أنعم عليه . ولا قوة إلا بالله ( 2 ) . إن الإمام عليه السلام في هاتين الفقرتين إنما يخاطب من هم من عامة الناس - سلطانا ورعية - ممن لا بد أن تربط بينهم السياسة ، إذ لا بد للناس من أمير ، على ما هو سنة الحياة وطبيعة التكوينة الاجتماعية ، فلا بد أن تكون لهم حقوق ، وتثبت عليهم واجبات ، ترتب بذلك حياتهم ترتيبا طيبا كي يعيشوا في صفاء وود وخير وسعادة . والإمام عليه السلام هنا - يقطع النظر عن الولاية الإلهية التكوينية ، ومنصب الإمامة المفروضة تشريعيا على الناس . ‹ صفحة 153 › ولذلك عبر ب‍ ( السلطان ) و ( الرعية ) ولم يفرض في السلطان ولاية إلهية ، وإنما فرضها سلطة حاصلة بالقوة والقهر ، وهذا ما يتمكن من تحصيله حتى غير الأئمة الإلهيين ، وإن كان السلاطين يحاولون الإيحاء بأنهم ينوبون عن الله في الولاية والسلطة ، وأنهم ظل الله على الأرض ، ولذلك يلقنون الناس فكرة ( الجبر ) حتى يربطوا وجودهم بإرادة الله ( 1 ) . لكن الإمام السجاد عليه السلام فرغ الحديث عن السلطان من كل هذه المعاني ، وإنما تحدث عن حقه كمتسلط بالقوة على الرعية ، فهو في هذه الحالة لا بد أن يعرف واجباته ويؤديها ويعرف حقوقه فلا يطلب أكثر منها . كما أن الرعية المواجهة لمثل هذا السلطان لا بد أن تعرف حدود المعاملة الواجبة عليها تجاهه ، وما يحرم عليها فلا تقتحمه ، رعاية للمصالح الاجتماعية العامة بشريا . وبما أن السلاطين في هذا المقام لم تفرض لهم العصمة ، اللازمة في الولاة الإلهيين ، فلا بد أن يحذروا من المخالفات الشرعية ، كما لا بد للرعية أن يحذروا من التعرض لبطشهم وسطوتهم ، فهناك حقوق مرسومة لكل منهما - السلطان والرعية - لا بد من مراعاتها ، حددها الإمام عليه السلام . فعلى السلطان أن لا يغتر بقدرته الموقوتة المحدودة : 1 - : أن يكون رؤوفا رحيما بالبشر الذين استولى عليهم . 2 - أن يعرف قدر نعمة السلطة ، حتى يوفق للمزيد ، حسب الموعود بالمزيد لمن شكر . ويتنعم بما هو فيه من فضل وسلطة . وأما الرعية ، فعليها : 1 - أن تخلص في النصيحة للسلطان وتبذل الولاء في سبيل إنجاح المهمة الاجتماعية والحكمة والتدبير من ( لا بدية الأمير ) في سبيل الخير . 2 - وأن لا تلجأ إلى العداء والبغضاء حتى لا يلجأ السلطان إلى العدوان والفتك ، فيحصل العقوق بين الراعي والرعية فيشتركان في إثم الفساد في الأرض . ‹ صفحة 154 › ومن المعلوم - في المقامين - أن مخاطب الإمام عليه السلام إنما هم المؤمنون بالله تعالى ، ولذا جعل كلا منهما ( فتنة إلهية ) للآخر ، ليعتبر بهذا الموقع الخطر الذي يتبوأه كل منهما . فالحديث مع الذين لا يخالفون أمر الله ولا يعادونه ، وإنما يسيرون موافقين للإسلام ، ويعتمدون على ما سنه من أحكام ، ولا يضرون بالدين ، وإلا فالأمر يختلف ، والحديث يتفاوت ، والحقوق تكون غيرها ، والواجبات سواها . والحاصل : أن ما حدده الإمام عليه السلام إنما هو عن السلطان والرعية ، إذا لم يتهدد كيان الإسلام وأحكامه وشعائره خطر من قبل السلطة ، بدليل التذكير فيه بنعم الله وحوله وقوته وأنه لا حول ولا قوة إلا به . وإلا ، لم يكن الخطاب بمثل هذا الكلام المعتمد على الإيمان بالله والاعتقاد بالواجب والإحساس بالخدمة للناس والإصلاح في المجتمع ، والاعتماد على قوة الله وحوله ، كما هو الحال في كل الحقوق الأخرى التي ذكرها في ( رسالة الحقوق ) فإنه وجه الخطاب إلى الأمة الإسلامية في داخل الوطن الإسلامي ، وفي الحدود التي يلتزم رعاياها بشريعة الإسلام وقواعده . وسنثبت نصا موثوقا لرسالة الحقوق في الملحق الأول من ملاحق الكتاب بعون الله ( 1 ) . ‹ صفحة 155 › الفصل الرابع التزامات فذة في حياة الإمام عليه السلام أولا : التزام الزهد والعبادة ثانيا : التزام البكاء على سيد الشهداء عليه السلام ثالثا : التزام الدعاء وأخيرا : مع الصحيفة السجادية هدفا ومضمونا ‹ صفحة 157 › تميزت سيرة الإمام زين العابدين عليه السلام بمظاهر فذة ، وهي وإن كانت متوفرة في حياة آبائه وأبنائه الأئمة عليهم السلام ، إلا أنها برزت في سيرة الإمام عليه السلام بشكل آخر ، أكثر وضوحا ، وأوسع دورا ، مما تسترعي الانتباه ، وهي : 1 - ظاهرة الزهد والعبادة . 2 - ظاهرة البكاء . 3 - ظاهرة الدعاء . فإذا سبرنا حياة الأئمة عليهم السلام ، وجدناهم - كلهم - يتميزون في هذه المظاهر على أهل زمانهم ، إلا أنها في حياة الإمام زين العابدين عليه السلام تجاوزت الحد المألوف ، حتى كان عليه السلام فريدا في الالتزام بكل منها : العبادة والزهد ، فقد عد فيهما : زين العابدين وسيد الزاهدين ، حتى ضرب به المثل فيهما . والبكاء ، فقد عد فيه : من البكائين الخمسة . وأما الدعاء : فالصحيفة التي خلفها تكفي شاهدا على ما نقول . وسنحاول في هذا الفصل أن نشاهد أثر الالتزام بهذه المظاهر في ملامح سيرة الإمام عليه السلام ، ونقرأ ما خلده لنا التاريخ من آثارها في الحياة الاجتماعية للإمام عليه السلام ، وما استهدفه الإمام عليه السلام من اللجوء إليها بهذا الشكل المركز . ‹ صفحة 158 › أولا : التزام الزهد والعبادة لقد أخذت هذه الظاهرة ساعات طويلة من وقت الإمام عليه السلام ، وملأت مساحات واسعة من صفحات سيرته الشريفة ، حتى أصبح من أشهر ألقابه ( زين العابدين ) ( 1 ) و ( سيد الساجدين ) ( 2 ) . والزهد ، من الفضائل الشريفة التي يتزيى بها الرجال الطيبون ، المخلصون لله ، الراغبون في

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 149 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 113 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 244 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث 118 ) مختصر ابن منظور ( 17 - 244 ) . ( 3 ) تاريخ دمشق ( الحديث 82 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 239 ) . ‹ هامش ص 150 › ( 1 ) واقرأ صورا مثيرة من تعامله مع عبيده وإمائه في عوالم العلوم ( ص 151 - 155 ) . ‹ هامش ص 152 › ( 1 ) رسالة الحقوق ، الحق رقم [ 15 ] ( 2 ) رسالة الحقوق ، الحق رقم [ 18 ] ‹ هامش ص 153 › ( 1 ) كما شرحنا جانبا من ذلك في بحث سابق ، لاحظ ( ص 88 - 91 ) في الفصل الثاني . ‹ هامش ص 154 › ( 1 ) لاحظ الصفحات ( 254 - 296 ) من كتابنا هذا . ‹ هامش ص 158 › ( 1 ) تاريخ أهل البيت عليهم السلام ( ص 130 - 131 ) مختصر تاريخ دمشق ( 17 : 237 ) عن مالك بن أنس و ( ص 235 ) عن الزهري . ( 2 ) قد مضى أن هذه الألقاب وردت في الحديث المرفوع ، فلاحظ ( ص 5 3 - 37 ) من كتابنا هذا . ( 3 ) سير أعلام النبلاء ( 4 : 392 ) وشرح الأخبار ( 3 : 254 و 272 ) والخصال للصدوق 517 وعلل الشرائع له ( ص 232 ) والإرشاد للمفيد ( 256 ) وكشف الغمة ( 1 : 33 ) نقلا عن رسالة الجاحظ في فضل بني هاشم و ( 2 : 86 ) وفلاح السائل ( ص 244 ) وتذكرة الحفاظ ( 1 : 75 ) وبحار الأنوار ( 46 / 67 ) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 158 - 163
جزيل ثوابه ، العارفون بحقيقة الدنيا وأنها فانية زائلة ، فلا يميلون إلى الاستمتاع بلذاتها ومغرياتها ، بل يقتصرون على الضروري الأقل ، من المشرب والملبس والمسكن والمأكل . وقد التزم أئمة أهل البيت بهذه الفضيلة بأقوى شكل ، وفي التزامهم بها معنى أكبر من مجرد الفضل والخلق الجيد ، فكونهم أئمة يقتدى بهم وأمثولة لمن يعتقد بهم ، وأسوة لمن سواهم ، وقدوة للمؤمنين ، يتبعون خطاهم ، فهم لو تخلقوا بهذا الخلق الكريم ، قام جمع من الناس بذلك معهم ، سائرين على طرق مأمونة من الانحراف . فللإمام السجاد عليه السلام في العبادة مشاهد عظيمة ، وأعمال جليلة ، وسجدات طويلة ، وصلوات متتالية ، حتى أنه كان يصلي في اليوم والليلة ( ألف ركعة ) ( 3 ) وهذا يشبه ما نقل عن جده الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام . وإذا نظرنا إلى عصر الإمام زين العابدين عليه السلام ، وإلى ما حوله من حوادث واقعة وأمور جارية : أمكننا أن نقول : إن التزام الإمام بهذه العبادة ، وبهذا الشكل من السعة ، والإصرار ، والإعلان ، لم يكن عفويا ، ولا عن غير قصد وهدف ، ولا لمجرد ‹ صفحة 159 › حاجة شخصية ، وتقرب خاص ، بل كان وراءها تدبير اجتماعي مهم جدا ، إذ أن الأمويين - في تلك الفترة بالخصوص ، وبعد سيطرتهم على مقدرات العباد والبلاد - جدوا في إشاعة الفساد ، وتمييع المجتمع ، وترويج الترف واللهو ، بين الناس ، بهدف تبرير أعمالهم المخالفة للشرع المقدس ، المنافية للعرف الذي يبتنى على العفة والشرف ، وسعيا لتخدير الناس ، وإبعاد الأمة عن الروح الإسلامية الواثبة المقتدرة التي تمكن المسلمون بها من السيطرة على مساحات شاسعة من العالم وحضارات لامبراطوريات مجاورة لها بعد أن كانوا من الشعوب المتخلفة تتخطفهم الأمم من حولهم ، لا يملكون لعدوهم دفعا ، ولا عن ذمارهم منعا . وقد خاطبتهم الزهراء فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واصفة حالتهم بقولها : . . . وكنتم على شفا حفرة من النار ، مذقة الشارب ونهزة الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطأ الأقدام ، تشربون الطرق وتقتاتون الورق ، أذلة خاسئين تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم ، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بأبي ( 1 ) . فأرشدهم الرسول إلى المجد والعلى والكرامة والعلم . لكن الأمويين - ولأجل إخماد ثورة الإسلام في نفوس الناس - أخذوا في ترويج الفحشاء والمنكر ، والفجور والخمور ، والظلم والخيانة ، حتى ضرب بهم المثل في خرق العهود والمواثيق ، وتجاوز الأعراف والموازين المقبولة بين الناس ، وتلاعبوا بكل المقدرات والمقررات ، وانغمسوا - وجروا الناس معهم - في الرذيلة واللعب ، ومعهم الجيل الناشئ من الأمة ، الذي نما على هذه الروح الطاغية اللاهية . حتى جعلوا من مدينة الرسول الطيبة ، مركزا للفساد . قال أبو الفرج الأصبهاني : إن الغناء في المدينة لا ينكره عالمهم ، ولا يدفعه عابدهم ( 2 ) وحتى : كانت يثرب تعج بالمغنيات . . . ‹ صفحة 160 › ومن المؤسف - حقا - أن مدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم صارت - في العصر الأموي - مركزا للحياة العابثة ، وكان من المؤمل أن تصبح معهدا للثقافة الدينية ، ومصدرا للإشعاع الفكري والحضاري في العالم الإسلامي ، إلا أن الأمويين سلبوها هذه القابلية ، وأفقدوها مركزيتها الدينية والسياسية ( 1 ) . ولما خرج عروة بن الزبير من المدينة واتخذ قصرا بالعقيق ، وقال له الناس : قد أجفرت مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ! قال : إني رأيت مساجدهم لاهية ، وأسواقهم لاغية ، والفاحشة في فجاجهم عالية ( 2 ) . وأضاف القرطبي : وكان في ما هناك عما أنتم فيه عافية ( 3 ) . إنه - في مثل هذه الأجواء والظروف - ليس عفويا ، ولا عن غير هدف : أن يظل الإمام زين العابدين عليه السلام في المدينة ، يعظ الناس ويرشدهم ، ويدعوهم إلى نبذ المتع ، ويحذرهم من اللغو واللهو ومن الزينة والتفاخر . فكان عليه السلام يقول : لا قدست أمة فيها البربط ( 4 ) . لقد كان له مجلس في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يعظ الناس فيه : قال سعيد بن المسيب : كان علي بن الحسين عليه السلام يعظ الناس ويزهدهم في الدنيا ، ويرغبهم في أعمال الآخرة ، بهذا الكلام ، في كل جمعة ، في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وحفظ عنه ، وكتب ، كان يقول : أيها الناس ! اتقوا الله واعلموا أنكم إليه ترجعون ، فتجد كل نفس ما عملت - في هذه الدنيا - من خير محضرا وما عملت من سوء ، تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ، ويحذركم الله نفسه [ مقتبس من القرآن الكريم . سورة آل عمران ( 3 ) الآية ( 30 ) ] . ويحك ! يا بن آدم الغافل ، وليس بمغفول عنه ! ‹ صفحة 161 › يا بن آدم ! إن أجلك أسرع شئ إليك قد أقبل نحوك حثيثا يطلبك ، ويوشك أن يدركك ، وكأن قد أوفيت أجلك ، وقبض الملك روحك وصرت إلى قبرك وحيدا ، فرد إليك فيه روحك ، واقتحم عليك فيه ملكان : ناكر ونكير لمسألتك وشديد امتحانك . ألا ، وإن أول ما يسألانك : عن ربك الذي كنت تعبده ؟ وعن نبيك الذي أرسل إليك ؟ وعن دينك الذي كنت تدين به ؟ وعن كتابك الذي كنت تتلوه ؟ وعن إمامك الذي كنت تتولاه ؟ ثم ، عن عمرك في ما كنت أفنيته ؟ ومالك من أين اكتسبته ؟ وفي ما أنت أنفقته ؟ فخذ حذرك ، وانظر لنفسك ، وأعد الجواب قبل الامتحان والمسألة والاختبار . فإن تك مؤمنا عارفا بدينك ، متبعا للصادقين ، مواليا لأولياء الله ، لقاك الله حجتك وانطلق لسانك بالصواب وأحسنت الجواب ، وبشرت بالرضوان والجنة من الله عز وجل ، واستقبلتك الملائكة بالروح والريحان . وإن لم تكن كذلك تلجلج لسانك ودحضت حجتك وعييت عن الجواب ، وبشرت بالنار ، واستقبلتك ملائكة العذاب بنزل من حميم وتصلية جحيم . واعلم يا بن آدم : أن من وراء هذا أعظم ، وأفظع ، وأوجع للقلوب يوم القيامة ، وذلك يوم مجموع له الناس ، وذلك يوم مشهود ، يجمع الله عز وجل فيه الأولين والآخرين . ذلك يوم ينفخ في الصور ، وتبعثر فيه القبور . وذلك يوم الأزفة ، إذ القلوب لدى الحناجر ، كاظمين . وذلك يوم لا تقال فيه عثرة ، ولا يؤخذ من أحد فدية ، ولا تقبل عن أحد معذرة ، ولا لأحد فيه مستقبل توبة ، ليس إلا الجزاء بالحسنات والجزاء بالسيئات . فمن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرة من خير وجده ، ومن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرة من شر وجده . فاحذروا ، أيها الناس من الذنوب والمعاصي ما قد نهاكم الله عنها ، وحذركموها في كتابه الصادق ، والبيان الناطق . ولا تأمنوا مكر الله وتحذيره وتهديده ، عندما يدعوكم الشيطان اللعين إليه من عاجل الشهوات واللذات في هذه الدنيا ، فإن الله عز وجل يقول : * ( إن الذين اتقوا إذا مسهم ‹ صفحة 162 › طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) * [ الأعراف ( 7 ) الآية : 201 ] . وأشعروا قلوبكم خوف الله ، وتذكروا ما قد وعدكم الله في مرجعكم إليه من حسن ثوابه ، كما قد خوفكم من شديد العقاب ، فإنه من خاف شيئا حذره ، ومن حذر شيئا تركه . ولا تكونوا من الغافلين ، المائلين إلى زهرة الدنيا ، الذين مكروا السيئات ، فإن الله يقول في محكم كتابه : * ( أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين أو يأخذهم على تخوف ) * [ النحل ( 16 ) الآيات 45 - 47 ] . فاحذروا ما حذركم الله ، بما فعل بالظلمة ، في كتابه ، ولا تأمنوا أن ينزل بكم بعض ما تواعد به القوم الظالمين في الكتاب . والله ، لقد وعظكم الله في كتابه بغيركم ، فإن السعيد من وعظ بغيره . ولقد أسمعكم الله في كتابه ما قد فعل بالقوم الظالمين من أهل القرى قبلكم ، حيث يقول : * ( وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة ) * وإنما عنى بالقرية أهلها ، حيث يقول : * ( وأنشأنا بعدها قوما آخرين ) * فقال عز وجل : * ( فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون ) * يعني يهربون ، قال : * ( لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون ) * فلما أتاهم العذاب * ( قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين ) * [ الأنبياء ( 21 ) الآيات ( 11 - 15 ) ] . وأيم الله ، إن هذه عظة لكم وتخويف ، إن اتعظتم وخفتم . ثم رجع القول من الله في الكتاب على أهل المعاصي والذنوب ، فقال الله عز وجل : * ( ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين ) * [ الأنبياء ( 21 ) الآية ( 46 ) ] . فإن قلتم - أيها الناس - : إن الله عز وجل إنما عنى بهذا أهل الشرك ؟ فكيف ذاك ؟ وهو يقول : * ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ) * [ الأنبياء ( 21 ) الآية ( 47 ) ] ؟ ! إعلموا - عباد الله - إن أهل الشرك لا تنصب لهم الموازين ولا تنشر لهم الدواوين ، ‹ صفحة 163 › وإنما يحشرون إلى جهنم زمرا ، وإنما نصب الموازين ونشر الدواوين لأهل الإسلام . فاتقوا الله عباد الله . واعلموا أن الله عز وجل لم يحب زهرة الدنيا وعاجلها لأحد من أوليائه ، ولم يرغبهم فيها وفي عاجل زهرتها وظاهر بهجتها ، وإنما خلق الدنيا وأهلها ليبلوهم فيها : أيهم أحسن عملا لآخرته ؟ . وأيم الله ، لقد ضرب لكم فيه الأمثال ، وعرف الآيات لقوم يعقلون ، ولا قوة إلا بالله . فازهدوا في ما زهدكم الله عز وجل فيه من عاجل الحياة الدنيا . فإن الله عز وجل يقول - وقوله الحق - : * ( إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وأزينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ) * [ يونس ( 10 ) الآية ( 24 ) ] . فكونوا عباد الله من القوم الذين يتفكرون ، ولا تركنوا إلى الدنيا فإن الله عز وجل قال لمحمد ص
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 158 › ( 1 ) تاريخ أهل البيت عليهم السلام ( ص 130 - 131 ) مختصر تاريخ دمشق ( 17 : 237 ) عن مالك بن أنس و ( ص 235 ) عن الزهري . ( 2 ) قد مضى أن هذه الألقاب وردت في الحديث المرفوع ، فلاحظ ( ص 5 3 - 37 ) من كتابنا هذا . ( 3 ) سير أعلام النبلاء ( 4 : 392 ) وشرح الأخبار ( 3 : 254 و 272 ) والخصال للصدوق 517 وعلل الشرائع له ( ص 232 ) والإرشاد للمفيد ( 256 ) وكشف الغمة ( 1 : 33 ) نقلا عن رسالة الجاحظ في فضل بني هاشم و ( 2 : 86 ) وفلاح السائل ( ص 244 ) وتذكرة الحفاظ ( 1 : 75 ) وبحار الأنوار ( 46 / 67 ) . ‹ هامش ص 159 › ( 1 ) بلاغات النساء ( ص 13 ) وانظر : فدك للقزويني ( ص 153 ) وخطبتها عليها السلام في مسجد أبيها صلى الله عليه وآله وسلم لما منعها أبو بكر فدكا مروية في الاحتجاج للطبرسي ، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ( 4 / 78 ) ، وطرقها عديدة متضافرة . ( 2 ) الأغاني - طبع دار الكتب - ( 8 : 224 ) ولاحظ ( 4 : 222 ) ففيه موقف مالك فقيه المدينة ، وانظر العقد الفريد ( 3 : 233 و 245 ) . ‹ هامش ص 160 › ( 1 ) لاحظ حياة الإمام زين العابدين للقرشي ( ص 670 ) واقرأ في الصفحات ( 665 - 71 6 ) أخبارا من ترف الأمويين ، وحياة اللهو والغناء وحفلات الرقص في المدن المقدسة - المدينة ومكة - . ( 2 ) مختصر تاريخ دمشق لابن منظور ( 17 : 23 ) . ( 3 ) جامع بيان العلم ( 2 / ) . ( 4 ) لسان العرب مادة ( بربط ) . ‹ هامش ص 163 › ( 1 ) الكافي ، للكليني ( 8 : 72 - 76 ) وتحف العقول ( ص 249 - 252 ) وأمالي الصدوق ( المجلس ( 76 ) ص ( 407 - 409 ) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 163 - 169
صلى الله عليه وآله وسلم : * ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ) * [ هود ( 11 ) الآية ( 113 ) ] . ولا تركنوا إلى زهرة الدنيا وما فيها ركون من اتخذها دار قرار ومنزل استيطان ، فإنها دار بلغة ، ومنزل قلعة ، ودار عمل ، فتزودوا الأعمال الصالحة فيها قبل تفرق أيامها ، وقبل الإذن من الله في خرابها ، فكان قد أخر بها الذي عمرها أول مرة وابتدأها وهو ولي ميراثها فأسأل الله العون لنا ولكم على تزود التقوى ، والزهد فيها . جعلنا الله وإياكم من الزاهدين في عاجل زهرة الحياة الدنيا ، الراغبين لآجل ثواب الآخرة ، فإنما نحن به وله . وصلى الله على محمد وآله وسلم . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ( 1 ) . ‹ صفحة 164 › وكان عليه السلام يعظ أصحابه ( 1 ) ويعظ الخليفة وأعوانه ( 2 ) . ويجسد في نفسه كل المواعظ والنصائح ، حتى يكون أمثولة للسامعين والمشاهدين . وقد نقلت آثار في هذا الباب عنه عليه السلام ، نذكر منها : 1 - كان علي بن الحسين عليه السلام إذا مشى لا يجاوز يديه فخذيه ، ولا يخطر بيده ( 3 ) . 2 - وكان إذا قام إلى الصلاة أخذته رعدة ، فقيل له : ما لك ؟ فقال : ما تدرون بين يدي من أقوم ؟ ومن أناجي ؟ ( 4 ) . 3 - وقيل : إنه كان إذا توضأ أصفر لونه ، فيقول له أهله : ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء ؟ فيقول : تدرون بين يدي من أريد أن أقوم ؟ ( 5 ) . 4 - قال سفيان بن عيينة : حج علي بن الحسين عليه السلام فلما أحرم واستوت به راحلته اصفر لونه ، وانتفض . . . ولم يستطع أن يلبي ، فقيل له : ما لك ؟ فقال : أخشى أن أقول : ( لبيك ) فيقول لي : ( لا لبيك ) ( 6 ) . 5 - وقال مالك بن أنس : أحرم علي بن الحسين عليه السلام ، فلما أراد أن يقول : ( لبيك اللهم لبيك ) قالها فأغمي عليه ، حتى سقط من راحلته ( 7 ) . ‹ صفحة 165 › قال : وبلغني أنه كان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة إلى أن مات ( 1 ) . 6 - وقع حريق في بيت فيه الإمام زين العابدين عليه السلام فجعلوا يقولون له : يا بن رسول الله ! النار ! يا بن رسول الله ! النار ! فما رفع رأسه حتى أطفئت ، فقيل له : ما الذي ألهاك عنها ؟ قال : ألهتني النار الأخرى ! ( 2 ) . 7 - قالوا : وكان علي بن الحسين عليه السلام يخرج على راحلته إلى مكة ويرجع ، لا يقرعها ( 3 ) . 8 - وروى ابن طاوس عن الصادق عليه السلام قال : كان علي بن الحسين عليه السلام إذا حضر الصلاة اقشعر جلده ، واصفر لونه ، وارتعد كالسعفة ( 4 ) . ولنقرأ معا كلاما له عليه السلام في الزهد ، لنقف على معالم رفيعة وآفاق وسيعة مما عند الإمام في هذا المقام : إن علامة الزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة تركهم كل خليط وخليل ورفضهم كل صاحب لا يريد ما يريدون . ألا وإن العامل لثواب الآخرة هو الزاهد في عاجل زهرة الدنيا ، الأخذ للموت أهبته ، الحاث على العمل قبل فناء الأجل ونزول ما لا بد من لقائه . وتقديم الحذر قبل الحين ، فإن الله عز وجل يقول : * ( حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا في ما تركت ( 5 ) * فلينزلن أحدكم اليوم نفسه في هذه الدنيا كمنزلة المكرور إلى الدنيا ، النادم على ما فرط فيها من العمل الصالح ليوم فاقته . واعلموا عباد الله : أنه من خاف البيات تجافى عن الوساد . وامتنع من الرقاد ، ‹ صفحة 166 › وأمسك عن بعض الطعام والشراب من خوف سلطان أهل الدنيا ، فكيف ، ويحك يا ابن آدم ، من خوف بيات سلطان رب العزة وأخذه الأليم وبياته لأهل المعاصي والذنوب مع طوارق المنايا بالليل والنهار ؟ فذلك البيات الذي ليس منه منجى ، ولا دونه ملتجأ ، ولا منه مهرب . فخافوا الله أيها المؤمنون من البيات خوف أهل التقوى ، فإن الله يقول : * ( ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ( 1 ) * . فاحذروا زهرة الحياة الدنيا وغرورها وشرورها وتذكروا ضرر عاقبة الميل إليها ، فإن زينتها فتنة وحبها خطيئة . واعلم ويحك يا ابن آدم أن قسوة البطنة وكظة الملأة وسكر الشبع وغرة الملك مما يثبط ويبطئ عن العمل وينسي الذكر ويلهي عن اقتراب الأجل ، حتى كأن المبتلى بحب الدنيا به خبل من سكر الشراب . وأن العاقل عن الله ، الخائف منه ، العامل له ليمرن نفسه ويعودها الجوع حتى ما تشتاق إلى الشبع ، وكذلك تضمر الخيل لسبق الرهان . فاتقوا الله عباد الله تقوى مؤمل ثوابه وخائف عقابه فقد - لله أنتم - أعذر وأنذر وشوق وخوف ، فلا أنتم إلى ما شوقكم إليه من كريم ثوابه تشتاقون فتعملون ، ولا أنتم مما خوفكم به من شديد عقابه وأليم عذابه ترهبون فتنكلون . وقد نبأكم الله في كتابه أنه : * ( من يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون ( 2 ) * . ثم ضرب لكم الأمثال في كتابه وصرف الآيات لتحذروا عاجل زهرة الحياة الدنيا فقال : * ( إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم ( 3 ) * . فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا ، فاتقوا الله واتعظوا بمواعظ الله . وما أعلم إلا كثيرا منكم قد نهكته عواقب المعاصي فما حذرها وأضرت بدينه فما مقتها . أما ‹ صفحة 167 › تسمعون النداء من الله بعيبها وتصغيرها حيث قال : * ( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور * سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) * ( 1 ) . وقال : * ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون * ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون ) * ( 2 ) . فاتقوا الله عباد الله ، وتفكروا واعملوا لما خلقتم له ، فإن الله لم يخلقكم عبثا ولم يترككم سدى ، قد عرفكم نفسه وبعث إليكم رسوله وأنزل عليكم كتابه ، فيه حلاله وحرامه وحججه وأمثاله . فاتقوا الله فقد احتج عليكم ربكم فقال : * ( ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين * وهديناه النجدين ) * ( 3 ) فهذه حجة عليكم فاتقوا الله ما استطعتم فإنه لا قوة إلا بالله ولا تكلان إلا عليه ، وصلى الله على محمد [ نبيه ] وآله ( 4 ) . إن الأبعاد الأخرى التي أنتجتها سيرة الإمام زين العابدين عليه السلام في الزهد والعبادة ، هي 1 - اعتراف علماء البلاط بفضل أهل البيت عليهم السلام . على الرغم من أن الحكام يحاولون التغطية على فضائل المعارضين لهم ولا سيما آل أمية الذين ضربوا الأرقام القياسية في هذه الخصلة الذميمة ، بإعلان السب لأهل البيت على المنابر ، وإيعازهم إلى وعاظ السلاطين بوضع الحديث في قدحهم وذمهم ، ‹ صفحة 168 › فإن علماء البلاط الأموي في عصر الإمام زين العابدين عليه السلام ، لم يمكنهم إخفاء فضل الإمام السجاد عليه السلام فضلا عن الغض منه ، لأن سيرته لم تكن تخفى على أحد من الناس ، فقد اضطروا إلى إظهار تصريحات واضحة تعلن فضل الإمام عليه السلام ، بالرغم من ارتباطهم بالحكم الأموي الجائر ، أو موالاتهم له ، وكذلك من تلاهم من فقهاء العامة ورجالهم : قال يحيى بن سعيد : سمعت علي بن الحسين ، وكان أفضل هاشمي أدركته ( 1 ) . وقال الزهري : ما رأيت قرشيا - أو هاشميا - أفضل من علي بن الحسين ( 2 ) . وقال سعيد بن المسيب : ما رأيت أورع منه ( 3 ) . وقال حماد بن زيد : كان علي بن الحسين أفضل هاشمي أدركته ( 4 ) . لقد فرض الإمام زين العابدين عليه السلام نفسه على كل المناوئين لأهل البيت عليهم السلام حتى لم يشذ أحد منهم عن تعظيمه وتجليله . 2 - إبراز فضل أهل البيت عليهم السلام . ولقد كان الموقع الذي احتله الإمام زين العابدين عليه السلام بفضله وعبادته وزهده ، بين الأمة ، أحسن فرصة كي يعلن فضل أهل البيت ، الذي جهد الأعداء الظالمون في إخفائه : ففي الحديث أن جابرا قال له : ما هذا الجهد الذي كلفته نفسك ؟ . . . يا بن رسول الله ! البقيا على نفسك ، فإنك من أسرة بهم يستدفع البلاء ، وبهم تستكشف اللأواء ، وبهم تستمسك السماء ؟ ‹ صفحة 169 › فقال الإمام : يا جابر ، لا أزال على منهاج أبوي مؤتسيا بهما حتى ألقاهما . فاقبل جابر على من حضر فقال : ما رؤي في أولاد الأنبياء مثل علي بن الحسين ، إلا يوسف بن يعقوب ، والله لذرية علي بن الحسين أفضل من ذرية يوسف ( 1 ) . فإن قوله : ( منهاج أبوي - يعني : عليا والحسين عليهما السلام - مؤتسيا بهما ) يعني : أن ما يتمتع به الإمام زين العابدين عليه السلام هو ما كان يتمتع به أبوه الحسين وجده علي عليهما السلام ، وأن ما قام به أبواه من الجهاد يقوم به الإمام السجاد ، لأنه مثلهما في الإمامة ، ووارثهما في الكرامة . وفي حديث عن الصادق عليه السلام في ذكر أمير المؤمنين عليه السلام وإطرائه ومدحه بما هو أهله ، وزهده في المأكل ، قال : وما أطاق عمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الأمة غيره ، ثم قال : وما أشبهه من ولده ولا أهل بيته أحد أقرب شبها به في لباسه وفقهه من علي بن الحسين عليه السلام . قال : ولقد دخل أبو جعفر - ابنه - عليه فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد ، فرآه ، وقد اصفر لونه من السهر ، ورمصت عيناه من البكاء . . . قال أبو جعفر عليه السلام : فلم أملك - حين رأيته بتلك الحال - البكاء ، فبكيت رحمة له ، فإذا هو يفكر ، فالتفت إلي بعد هنيئة من دخولي - فقال : يا بني ، أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي بن أبي طالب عليه السلام ، فأعطيته ، فقرأ فيها شيئا يسيرا ، ثم تركها من يده تضجرا ، وقال : من يقوى على عبادة علي بن أبي طالب عليه السلام ؟ ( 2 ) . وعن الصادق عليه السلام قال : كان علي بن الحسين عليه السلام إذا أخذ كتاب علي عليه السلام فنظر فيه قال : من يطيق هذا ؟ من يطيق هذا ؟ ( 3 ) . وهكذا يعل
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 163 › ( 1 ) الكافي ، للكليني ( 8 : 72 - 76 ) وتحف العقول ( ص 249 - 252 ) وأمالي الصدوق ( المجلس ( 76 ) ص ( 407 - 409 ) . ‹ هامش ص 164 › ( 1 ) كما رأينا صحيفته في الزهد إلى أصحابه ( راجع ص 123 - 125 ) من الفصل الثالث . ( 2 ) سيأتي ذكر مواعظ لهم في الفصل الخامس ( ص 221 - 230 ) . ( 3 ) تاريخ دمشق الأحاديث ( 6 - 63 ) مختصر تاريخ دمشق ( 17 : 236 ) وانظر سير أعلام النبلاء ( 4 : 392 ) . ( 4 ) تاريخ دمشق , الأحاديث ( 6 - 63 ) مختصر تاريخ دمشق ( 17 : 236 ) وانظر سير أعلام النبلاء ( 4 : 392 ) . ( 5 ) تاريخ دمشق الأحاديث ( 6 - 63 ) مختصر تاريخ دمشق ( 17 : 236 ) وانظر سير أعلام النبلاء ( 4 : 392 ) وروي الحديث الثالث في العقد الفريد ( 3 : 169 ) . ( 6 ) تاريخ دمشق الأحاديث ( 6 - 63 ) مختصر تاريخ دمشق ( 17 : 236 ) وانظر سير أعلام النبلاء ( 4 : 392 ) . ( 7 ) تاريخ دمشق ( الحديث 64 ) ومختصر ابن منظور ( 17 : 237 ) وسير أعلام النبلاء ( 4 : 392 ) . ‹ هامش ص 165 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 64 ) ومختصر ابن منظور ( 17 : 237 ) وسير أعلام النبلاء ( 4 : 392 ) وانظر ص 158 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث 10 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 236 ) سير أعلام النبلاء ( 4 : 1 - 392 ) . ( 3 ) تاريخ دمشق ( الحديث 100 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 233 ) سير أعلام النبلاء ( 4 : 388 ) . ( 4 ) فلاح السائل ( ص 96 ) عن كتاب ( زهرة المهج وتواريخ الحجج ) . ( 5 ) المؤمنون آية 100 . ‹ هامش ص 166 › ( 1 ) سورة إبراهيم آية 14 . ( 2 ) سورة الأنبياء آية 94 . ( 13 ) سورة التغابن آية 15 . ‹ هامش ص 167 › ( 1 ) سورة الحديد آية 20 - 21 . ( 2 ) سورة الحشر آية 18 - 19 . ( 3 ) سورة البلد آية 8 - 10 . ( 4 ) تحف العقول ( ص 272 - 274 ) . ‹ هامش ص 168 › ( 1 ) طبقات ابن سعد ( 1 : 214 ) وتاريخ دمشق ( الحديث 47 ) ومختصر ابن منظور ( 17 : 235 ) . ( 2 ) سير أعلام النبلاء ( 4 : 387 ) ولاحظ تاريخ دمشق ( الأحاديث 37 و 41 و 50 ) ومختصر ابن منظور ( 17 : 231 و 235 ) . ( 3 ) سير أعلام النبلاء ( 4 : 391 ) ومختصر تاريخ دمشق ( 17 : 236 ) وحلية الأولياء ( 3 : 141 ) . ( 4 ) تهذيب الأسماء واللغات ( 1 : 343 ) . ‹ هامش ص 169 › ( 1 ) مناقب آل أبي طالب ( 3 : 289 ) وبحار الأنوار ( 46 : 79 ) ولاحظ : أمالي الطوسي ( 2 : 250 ) . ( 2 ) شرح الأخبار للقاضي ( 3 : 272 ) والإرشاد للمفيد ( ص 256 ) والمناقب لابن شهرآشوب ( 4 : 149 ) وكشف الغمة ( 2 : 85 ) وبحار الأنوار ( 46 : 75 ) . ( 3 ) الكافي للكليني ، الروضة ( 8 : 163 ) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 169 - 175
ن الإمام زين العابدين عليه السلام - وهو في أعلى قمم العبادة والاجتهاد في الطاعة - أنه لا يقوى على عبادة جده علي عليه السلام ! فإلى أي سماء ترتفع فضيلة أمير المؤمنين علي عليه السلام في العبادة ، بعد هذه الشهادة ! ؟ ‹ صفحة 170 › إن الإمام زين العابدين عليه السلام بهذا الجهاد الظريف يحرق ما كدسه بنو أمية طوال السنين المظلمة لحكمهم من أطنان الكذب والافتراء ضد علي عليه السلام ، وينسف كل الأسس التي بنوا عليها ظلمهم وجورهم لسيد العترة وزعيم أهل البيت الطاهر أمير المؤمنين علي عليه السلام . 3 - إنارة السبيل للعباد والصالحين : إن الإمام زين العابدين عليه السلام وهو يمثل الإسلام في تصرفاته وأقواله ، كان المثل الأفضل للعباد والصالحين ، ومن أراد أن يدخل هذا المسلك الشريف فله من الإمام عليه السلام خير دليل ومرشد ، ومن أقواله خير منهج وطريقة . ولقد رسم خطوطا عريضة للسير والسلوك ، تمثل أفضل ما قرره علماء هذا الفن ، وإليك أمثلة من تلك : فقال عليه السلام : إن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد ، وآخرين عبدوه رغبة فتلك عبادة التجار ، وقوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار ( 1 ) . فربط بين الحرية ، وبين عبادة الله ، وبين الروح غير الخانعة ولا الطامعة بل المتطلعة إلى الله ، والمتقربة إلى رضوانه ، بالتزام العبادة له ، والطالبة للمزيد بالشكر ، حيث وعد وقال : * ( لئن شكرتم لأزيدنكم ) * [ سورة إبراهيم ( 14 ) الآية 7 ] . وسئل عليه السلام : عن صفة الزاهد في الدنيا ؟ فقال : يتبلغ بدون قوته ، ويستعد ليوم موته ، ويتبرم في حياته ( 2 ) . وقال له رجل : ما الزهد ؟ فقال عليه السلام : الزهد عشرة أجزاء : فأعلى درجات الزهد ، أدنى درجات الورع ، وأعلى درجات الورع أدنى درجات اليقين ، وأعلى درجات اليقين أدنى درجات الرضا ، وإن الزهد في آية من كتاب الله * ( لكي لا ‹ صفحة 171 › تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم ) * [ الحديد ( 57 ) الآية : 23 ] ( 1 ) . ومن أظرف أمثلة مواعظه ، ما روي عنه من الخطاب الموجه إلى ( النفس ) يقول : ( يا نفس ، حتام إلى الدنيا سكونك ، وإلى عمارتها ركونك ، أما اعتبرت بمن مضى من أسلافك ؟ ومن وارته الأرض من الإفك ؟ ومن فجعت به من إخوانك ؟ ونقل إلى الثرى من أقرانك ؟ فهم في بطون الأرض بعد ظهورها * محاسنهم فيها بوال دواثر خلت دورهم منهم وأقوت عراصهم * وساقتهم نحو المنايا المقادر وخلوا عن الدنيا وما جمعوا لها * وضمهم تحت التراب الحفائر ( 2 ) وهكذا يسترسل الإمام عليه السلام مع النفس في خطاب رقيق ، وحساب دقيق ، ويناجيها ، يعرض عليها العبر ، ويذكرها بما فيه مزدجر ، ويبعدها عن الدنيا وزينتها والغرور بها ، ويقربها إلى الآخرة ونعيمها وما فيها من جوار الله ورحمته ، في مقاطع نثرية رائعة ، تتلوها معان منظومة ، في ثلاثة أبيات بعد كل مقطع ، بلغت ( 18 ) مقطعا ( 3 ) . وهكذا ، لم يترك الإمام عليه السلام طريقا إلا سلكه ولا جهدا إلا استنفده ، ليدرك الأمة كيلا تقع في هوة الانحراف ، وحياة الترف التي صنعتها لها آل أمية ‹ صفحة 172 › 1 - تزييف دعاوي المبطلين من دعاة التصوف والرهبنة : ومع أن الإمام زين العابدين عليه السلام كان المثل الأعلى للزهد والعبادة في عصره ، حتى غلبت عليه هذه الصفة أكثر من غيرها ، إلا أنه عليه السلام وقف من المتظاهرين - كذبا - بالزهد ، والمائلين إلى الانعزال عن المشاكل ، التاركين للحكام وللناس ، يظلم أولئك هؤلاء ، ويتبع هؤلاء أولئك ، والذين قبعوا - حسب نظرتهم - على إصلاح أنفسهم وأعمالهم ، تلك الحالة التي سميت من بعد بالتصوف ، وسمي أهلها بالصوفية . وقف الإمام عليه السلام من هذه الحالة ومن دعاتها ورعاتها ، موقف الرد والإنكار وإعلان الخطأ في طرقهم ، وحاول إرشادهم إلى طرق السلوك الصائبة ، بما قدمه إليهم وإلى الأمة من مواعظ وأدعية وخطب ورسائل وأجوبة تحدد لهم معالم الطرق القويمة والسبل المستقيمة ، والموصلة إلى الهدى والرشاد . وبما كان الإمام يتمتع به من مكانة مرموقة معترف بها ، في الإيمان والشرف ، حسبا ونسبا ، وخاصة في الزهد والعبادة ، فإن كلامه في هذا المجال كان هو المقبول ، ومواقفه التي كان يتخذها من المتظاهرين بالزهد ، كانت هي الناجحة والغالبة . وقد تركز انحرافهم في نقطتين هامتين : 1 - محاولتهم الانعزال عن الحياة الاجتماعية ، بعدم تدخلهم في ما يمس وجودهم بسوء أو ضرر ، مثل التعرض للظلم والفساد الذي يجري حواليهم ، وخاصة من قبل الخلفاء والولاة وكل من يمت إلى السلطان والحكومة بصلة ! خوفا على أنفسهم من الموت والهلكة . وقد كان يجرهم هذا التفكير إلى مداراة الظلمة ، والخضوع لهم ، والحضور في مجالسهم ، بل الانخراط في مظالمهم ، وتصويب أعمالهم ، بالرغم من معرفة ظلمهم وعدم استحقاقهم للمقامات التي احتلوها . 2 - وعلى أثر النقطة الأولى ، فإنهم ابتعدوا عن أهل البيت عليه السلام ، لأنهم كانوا هم المعارضين السياسيين ، فكان الاتصال بهم يعني المحسوبية عليهم وعلى خطهم ، ‹ صفحة 173 › فابتعدوا عنهم ، وأقل آثار ذلك هو الحرمان من تعاليمهم القيمة ، والتردي في ظلمات الجهل والانحراف . وبما أن أولئك المتظاهرين كانوا يمثلون في أنظار الناس بمنزلة علماء زهاد ، فإن استمرارهم على تلك الحالة الانحرافية كان يغري الناس البسطاء بصحة سلوكهم المنحرف ، وتفكيرهم الخاطئ فكان على الإمام زين العابدين عليه السلام أن يصدهم ، إرشادا لهم ، وإيقافا للأمة على حقيقة أمرهم ، وكشفا لانحرافهم وخطئهم في السلوك والمنهج : فموقفه من عباد البصرة ، الذين دخلوا مكة للحج ، وقد اشتد بالناس العطش لقلة الغيث ، قال أحدهم : ( ففزع إلينا أهل مكة والحجاج يسألوننا أن نستسقي لهم ) ؟ ! والكلام إلى هنا يدل على مدى اهتمام الناس بهؤلاء العباد ! قال : فأتينا الكعبة وطفنا بها ، ثم سألنا الله خاضعين متضرعين بها ، فمنعنا الإجابة ، فبينما نحن كذلك إذا نحن بفتى قد أقبل ، وقد أكربته أحزانه ، وأقلقته أشجانه ، فطاف بالكعبة أشواطا ، ثم أقبل علينا ، فقال : يا مالك بن دينار ، ويا . . . ويا . . . وذكر الإمام عليه السلام أسماءهم كلهم ، بحيث يبدو أنه يريد أن يعرفهم للناس بأعيانهم ! قال الراوي : فقلنا : لبيك وسعديك ، يا فتى ! فقال : أما فيكم أحد يحبه الرحمن ؟ فقلنا : يا فتى ، علينا الدعاء وعليه الإجابة ! فقال : أبعدوا عن الكعبة ، فلو كان فيكم أحد يحبه الرحمن لأجابه ! ثم أتى الكعبة ، فخر ساجدا ، فسمعته يقول في سجوده : ( سيدي بحبك لي إلا سقيتهم الغيث ) . قال : فما استتم الكلام حتى أتاهم الغيث كأفواه القرب ! قال الراوي : فقلت : يا أهل مكة ، من هذا الفتى ؟ قالوا : علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام ( 1 ) . ‹ صفحة 174 › إن ابتعاد أهل البصرة عن أهل البيت عليهم السلام إلى حد الجهل بهم ليس بتلك الغرابة ، لأن انحرافهم عن أهل البيت قد تجذر فيهم منذ حرب الجمل ووقعته الرهيبة ، وقد بقيت آثارها فيهم حتى دهر سحيق ، فلما خرج حفص بن غياث القاضي إلى عبادان - وهو موضع رباط - فاجتمع إليه البصريون فقالوا له : لا تحدثنا عن ثلاثة : أشعث بن عبد الملك ، وعمرو بن عبيد ، وجعفر بن محمد . . . ( 1 ) . فتلك شنشنة أعرفها من أخزم ! لكن كل الغرابة من أهل مكة المجاورين للمدينة ؟ والذين يعرفون الإمام كاملا ، كيف اغتروا بأولئك الزهاد ، القادمين من بعيد ، ولجأوا إليهم يطلبون الغيث منهم ، وهذا الإمام زين العابدين ، وحجة الزاهدين بينهم يتركونه ، بل لا يعرف إلا بالسؤال عنه ! ؟ لم يتصور ظلم على أهل البيت عليهم السلام أكثر من هذا في مركز الدين والإسلام ، مكة ، وعند أشرف البقاع وأعظمها ( الكعبة الشريفة ) ! ! وما الذي جعل أهل مكة يتركون الإمام علي بن الحسين عليه السلام وهم يعرفونه حسبا ونسبا ، فيلجأون إلى أناس جاءوا من البصرة ؟ إنه ليس إلا الانحراف عن أهل البيت عليهم السلام والجهل بحقهم وفضلهم ، إن لم يكن العداء لهم ! ! وهكذا تصدى الإمام لهذا الانحراف وأسقط ما في أيدي أولئك العباد المتظاهرين بالزهد ، الذين لا يعرف واحدهم زين العابدين ، إمام زمانه ، وسيد أهل البيت . فكشف عن زيف دعاواهم ، وسوء نياتهم ، وضلال سبلهم حيث عندوا عن حق أهل البيت ، ولم يعترفوا لهم بالفضل . وللإمام عليه السلام مواقف أخرى مع آحاد من هؤلاء العباد ، مثل موقفه من الحسن البصري ، ومن طاوس ، وغيرهما ( 2 ) . إن الزهد الذي قام الإمام زين العابدين عليه السلام بإحيائه كان مثل زهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ‹ صفحة 175 › وعلي والأئمة عليهم السلام ، الذي يطابق ما قرره الإسلام ، وينبذ كل أشكال الانحراف والزيف والتزوير ، والرهبانية المبتدعة . ولقد أثرت عن الإمام زين العابدين عليه السلام نصوص جاء فيها شرح العبادات من وجهات نظر روحية بما عجز عن إدراكه كبار المتصدين لمثل هذه المعارف ، فمن ذلك ما روي عنه في تفسير معاني أفعال الحج ( 1 ) وأقسام الصوم ( 2 ) . أضف إلى أن عمل الإمام كان تعديلا لسلوك الأمة في اغترارها بمناهج أولئك المتظاهرين المزيفين ، المنحرفين عن ولاء أهل البيت عليهم السلام وأئمة الحق والصدق ، الذين مثلهم الإمام زين العابدين عليه السلام يومذاك . إن الإمام عليه السلام حذر الأمة من الاغترار بالذين يتظاهرون بالزهد ، ممن يحب الترؤس على الناس ، يجتمعون حوله ، ويلتذ بالفخفخة والتمجيد ، ولو على حساب المعرفة بالدين والفقه ! ففي الحديث أنه قال عليه السلام : إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته وهديه ، وتماوت في منطقه ، وتخاضع في حركاته ، فرويدا لا يغرنكم ! فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا وركوب الحرام منها ، لضعف نيته ، ومهانته ، وجبن قلبه ، فنصب الدين فخا لها ، فهو لا يزال يختل الناس بظاهره ، فإن تمكن من حرام اقتحمه . وإذا وجدتموه ، يعف عن المال الحرام ، فرويدا ، لا يغرنكم ! فإن شهو
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 169 › ( 1 ) مناقب آل أبي طالب ( 3 : 289 ) وبحار الأنوار ( 46 : 79 ) ولاحظ : أمالي الطوسي ( 2 : 250 ) . ( 2 ) شرح الأخبار للقاضي ( 3 : 272 ) والإرشاد للمفيد ( ص 256 ) والمناقب لابن شهرآشوب ( 4 : 149 ) وكشف الغمة ( 2 : 85 ) وبحار الأنوار ( 46 : 75 ) . ( 3 ) الكافي للكليني ، الروضة ( 8 : 163 ) . ‹ هامش ص 170 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 141 ) وهذا من كلام الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام رواه الرضي في نهج البلاغة بالأرقام ( 65 و 237 و 276 ) من الباب الثالث : قصار الحكم . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث 134 ) . ‹ هامش ص 171 › ( 1 ) تحف العقول ( ص 278 - 279 ) . ( 2 ) ابن عساكر في تاريخ دمشق ( الحديث 135 ) ومختصره لابن منظور ( 17 : 249 - 254 ) ونقله ابن كثير في تاريخ البداية والنهاية ( 9 : 109 - 113 ) . وانظر عوالم العلوم ( ص 124 ) عن المناقب لابن شهرآشوب ( 3 / 292 ) وبحار الأنوار ( 46 / 83 ) . ( 3 ) وقد نسب كتاب منظوم إلى الإمام السجاد عليه السلام باسم ( المخمسات ) في نسخة محفوظة في خزانة مخطوطات مكتبة آية الله المرعشي قدس سره ذكرها السيد أحمد الحسيني في التراث العربي في تلك الخزانة ( 5 / 28 ) أوله : تبارك ذو العلى والكبرياء * تفرد بالجلال وبالبقاء وسوى الموت بين الخلق طرا * وكلهم رهائن للفناء رقم النسخة ( 5557 ) وتاريخها ( 903 ) . ‹ هامش ص 173 › ( 1 ) الاحتجاج ( 316 - 317 ) وبحار الأنوار ( 46 : 50 - 51 ) . ‹ هامش ص 174 › ( 1 ) تهذيب الكمال للمزي ( 5 / 7 - 78 ) . ( 2 ) لاحظها في حلية الأولياء ، وصفوة الصفوة ، وكشف الغمة . ‹ هامش ص 175 › ( 1 ) مستدرك الوسائل ( 2 : 186 ) أبواب العود إلى منى ، الباب ( 17 ) الحديث ( 5 ) وطبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام ( 10 / 166 ) رقم ( 11770 ) . ويلاحظ أن الراوي عن الإمام مسمى ب‍ ( شبلي ) وليس في الرواة عنه ، ولا من عاصره من هو بهذا الاسم ، ولعله مصحف ( شيبة ) وهو ابن نعامة ، المذكور في أصحابه عليه السلام . ( 2 ) حلية الأولياء ( 3 : 141 ) وفرائد السمطين للحمويني ( 2 : 233 ) وكشف الغمة ( 2 : 103 - 105 ) ولاحظ : المقنعة للشيخ المفيد ( ص 363 ) الباب ( 32 ) ووسائل الشيعة ، كتاب الصوم ، أبواب بقية الصوم الواجب ، الباب ( 10 ) الحديث ( 1 ) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 175 - 181
ت الخلق مختلفة فما أكثر من ينبو عن المال الحرام ، وإن كثر ويحمل نفسه على شوهاء قبيحة فيأتي منها محرما . فإذا وجدتموه يعف عن ذلك ، فرويدا لا يغرنكم ! ‹ صفحة 176 › حتى تنظروا ما عقدة عقله ؟ فما أكثر من ترك ذلك أجمع ، ثم لا يرجع إلى عقل متين ، فيكون ما يفسد بجهله أكثر مما يصلحه بعقله . فإذا وجدتم عقله متينا ، فرويدا لا يغرنكم ! حتى تنظروا ، أمع هواه يكون على عقله ، أم يكون مع عقله على هواه ؟ وكيف محبته للرئاسات الباطلة ؟ وزهده فيها ؟ فإن في الناس من خسر الدنيا والآخرة ، بترك الدنيا للدنيا ، ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة ، فيترك ذلك أجمع طلبا للرئاسة ، حتى إذا قيل له : ( اتق الله ) أخذته العزة بالإثم ، فحسبه جهنم ولبئس المهاد ( 1 ) . فهو يخبط خبط عشواء ، يوفده أول باطل إلى أبعد غايات الخسارة ، ويمد به - بعد طلبه لما لا يقدر عليه - في طغيانه ، فهو يحل ما حرم الله ، ويحرم ما أحل الله ، لا يبالي ما فات من دينه إذا سلمت له الرئاسة التي قد شقي من أجلها . فأولئك الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم عذابا مهينا ( 2 ) . ولكن الرجل ، كل الرجل ، نعم الرجل : هو الذي جعل هواه تبعا لأمر الله ، وقواه مبذولة في رضا الله ، يرى الذل مع الحق أقرب إلى عز الأبد ، من العز في الباطل ، ويعلم أن قليل ما يحتمله من ضرائها يؤديه إلى دوام النعيم في دار لا تبيد ولا تنفد ، وأن كثير ما يلحقه من سرائها - إن اتبع هواه - يؤديه إلى عذاب لا انقطاع له ولا يزول . فذلكم الرجل ، نعم الرجل : فبه فتمسكوا ، وبسنته فاقتدوا ، وإلى ربكم فتوسلوا ، فإنه لا ترد له دعوة ، ولا يخيب له طلبة ( 3 ) . ولحن هذا الكلام ، يعطي أنه خطاب عام وجهه الإمام إلى مستمعيه ، أو من طلب منه الإجابة عن سؤال حول من يجب الالتفاف حوله والأخذ منه ؟ ‹ صفحة 177 › ومهما يكن ، فإن كلام الإمام عليه السلام يبدو واضحا قاطعا للعذر ، وهو غير متهم في موقفه من الزهد والتواضع ، وما إلى ذلك مما يراد استغلاله من قبل المشعوذين ، لإغراء العوام ، وإغواء الجهال . إن فيه تحذيرا من علماء السوء ، المتزيين بزي أهل الصلاح ، والمتظاهرين بالورع والتقى ، ولكنهم يبطنون الخبث والمكر ، والدليل على ذلك ارتباطهم الوثيق بأهل الدنيا والرئاسات الباطلة ، من الحكام والولاة وأصحاب الأموال . وسيأتي الحديث عن موقفه من أعوان الظلمة في الفصل الخامس . 5 - إرعاب الظالمين : إن الواقعية التي التزمها الإمام زين العابدين عليه السلام في حياة الزهد والعبادة ، كما انفتحت له بها قلوب الناس الطيبين ، فكذلك اقتحم بها على الظالمين أبراجهم ، وقصورهم ، فملأ أثوابهم خيفة ورهبة ، كما غشى عيونهم وأفكارهم بما رأوه عليه من المظهر الزاهد ، والاشتغال بالعبادة . ولقد قرأنا في حديث مسلم بن عقبة - سفاح الحرة - لما طلب الإمام ، فأكرمه ، وقد كان مغتاظا عليه ، يبرأ منه ومن آبائه ، فلما رآه - وقد أشرف عليه - أرعب مسلم بن عقبة ، وقام له ، وأقعده إلى جانبه ! فقيل لمسلم : رأيناك تسب هذا الغلام وسلفه ، فلما أتي به إليك رفعت منزلته ؟ فقال : ما كان ذلك لرأي مني ، لقد ملئ قلبي منه رعبا ( 1 ) . وسنقرأ في حديث عبد الملك بن مروان ، لما جلب الإمام مقيدا مغلولا من المدينة إلى الشام ، فلما دخل عليه الإمام عليه السلام بصورة مفاجئة قال لعبد الملك : ما أنا وأنت ؟ قال عبد الملك : قلت : أقم عندي . فقال الإمام : لا أحب ، ثم خرج . قال عبد الملك : فوالله ، لقد امتلأ ثوبي منه خيفة ( 2 ) . ‹ صفحة 178 › ومهما يكن من تدخل أمر ( الغيب ) في هذه القضايا ، وفرضه لنفسه على البحث ، إلا أن من المعلوم كون تصرف الإمام عليه السلام نفسه ، وحياته العملية وتوجهاته المعنوية ، وتصرفاته المعلنة في الأدعية ، والمواعظ ، والخطب والمواقف ، وما تميزت به من واقعية ، كل هذا - المجهول لأولئك العمي البصائر - قد أصبح أمرا يهز كيانهم ، ويزعزع هدوءهم ، ويملؤهم بالرعب والخيفة . ولقد استغل الإمام ذلك لصالح أهدافه الدينية وأغراضه الاجتماعية . ومع كل هذا التعرض والتحدي ، وكل هذه الأبعاد المدركة والآثار المحسوسة ، مع دقتها وعمقها ، فإن التحفظ على ما في ظواهرها ، وجعلها ( روحية ) فقط وعدم الاعتقاد بكونها نتائج طبيعية من صنع الإمام وإرادته ، يدل على سذاجة في قراءة التاريخ ، وظاهرية في التعامل مع الكلمات والأحداث ، وقصور في النظر والحكم . وكذلك الاستناد إلى كل تلك المظاهر ، ومحاولة إدراج الإمام مع كبار الصوفية ، وجعله واحدا منهم ( 1 ) ، فهو بخلاف الإنصاف والعدل ؟ ! ولماذا يقع اختيار عبد الملك الخليفة على الإمام عليه السلام ، من بين مجموعة الزهاد والعباد ، ليوجه إليه الإهانة ، ويلقي القبض عليه ، ويكبله بالقيود والأغلال ، ويرفعه إلى دمشق ؟ ! دون جميع المتزهدين والعباد الآخرين ؟ ! بينما كل أولئك المتظاهرين بالزهد ، متروكون ، بل محترمون من قبل السلطان ، وأجهزة النظام ؟ ! لو لم يكن في عمل الإمام ما يثير الخليفة إلى ذلك الحد ! ‹ صفحة 179 › ثانيا : التزام البكاء على سيد الشهداء عليه السلام لقد صاحبت هذه الظاهرة الإمام زين العابدين عليه السلام مدة إمامته ونضاله ، بحيث لا يمكن المرور على أي مرفق من مرافق عمره الشريف ، أو أي موقف من مواقفه الكريمة ، إلا بالعبور من مجرى دموعه وفيض عيونه . ولا ريب أن البكاء ، كما أنه لا يتهيأ للإنسان إلا عند التأثر بالأمور الأكثر حساسية ، وإثارة وحرقة ، ليكون سببا للهدوء والترويح عن النفس . فكذلك هو وسيلة لإثارة القضية ، أمام الآخرين ، وتهييج من يرى دموع الباكي تنهمر ، ليتعاطف معه طبيعيا ، وعلى الأقل يخطر على باله التساؤل عن سبب البكاء ؟ وإذا كان الباكي شخصية مرموقة ، وذا خطر اجتماعي كبير ، مثل الإمام زين العابدين عليه السلام ، فإن ظاهرة البكاء منه ، مدعاة للإثارة الأكثر ، وجلب الاهتمام الأكبر ، بلا ريب . والحكام الظالمون ، فهم دائما يهابون الثوار في ظل حياتهم ، فيحاولون إسكاتهم بالقتل والخنق ، مهما أمكن ، ويتصورون ذلك أفضل السبل للتخلص منهم ، أو تطويقهم بالسجن والحبس . وكذلك هم يحاولون بكل جدية ، في إبادة آثار الثورة ومحوها عن الأنظار ، والأفكار حتى لا يبقى منها ولا بصيص جذوة . ولكنهم - رغم كل قدراتهم - لم يتمكنوا من اقتلاع العواطف التي تستنزف الدموع من عيون الباكين على أهليهم وقضيتهم ، فالبكاء من أبسط الحقوق الطبيعية للباكين . والإمام زين العابدين عليه السلام قد استغل هذا الحق الطبيعي في صالح القضية التي من أجلها راح الشهداء صرعى على أرض معركة كربلاء . وإذا أمعنا النظر في تحليل التاريخ وتابعنا مجريات الأحداث ، التي قارنت كربلاء ، وجدنا أن المعركة لم تنته بعد ، وإنما الدماء الحمر ، أصبحت تجري اليوم دموعا حارة بيضا ، تحرق جذور العدوان ، وتجرف معها مخلفات الانحراف وتروي بالتالي أصول الحق والعدالة . ‹ صفحة 180 › وبينما يعد الطغاة ظاهرة البكاء دليلا على العجز والضعف والانكسار والمغلوبية ، فهم يكفون اليد عن الباكي ، لكون بكائه علامة لاندحاره أمام القوة ، وعلامة الاستسلام للواقع ، نجد عامة الناس ، يبدون اهتماما بليغا لهذه الظاهرة ، تستتبع عطفهم ، وتستدر تجاوبهم إلى حد ما ، وأقل ما يبدونه هو نشدانهم عن أسباب البكاء ؟ وتزداد كل هذه الأمور شدة إذا كان الباكي رجلا شريفا معروفا ! وبالأخص إذا كان يفيض الدمعة بغزارة فائقة ، وباستمرار لا ينقطع ! كما كان من الإمام زين العابدين عليه السلام ، حتى عد في البكائين ، وكان خامسهم بعد آدم ، ويعقوب ، ويوسف ، وجدته فاطمة الزهراء ( 1 ) . إن البكاء على شهداء كربلاء ، وثورتها ، لم يكن في وقت من الأوقات أمر حزن ناتج من إحساس بالضعف والانكسار ، ولا عبرة يأس وقنوط ، لأن تلك الأحداث ، بظروفها ومآسيها قد مضت ، وتغيرت ، وذهب أهلوها ، وعرف حقها من باطلها ، وأصبحت للمقتولين كرامة وخلودا ، وللقاتلين لعنة ونقمة ، لكن البكاء عليهم وعلى قضيتهم ، كان أمر عبرة وإثارة واستمداد من مفجرها ، وصانع معجزتها ، وحزنا على عرقلة أهدافها المستلهمة من ثورة الإسلام التي قام بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم . والدليل على كل ذلك أن لكل حزن أمدا ، يبدأ من حين المصيبة إلى فترة طالت أو قصرت ، وينتهي ولو بعد جيل من الناس . أما قبل حدوث المصيبة ، فلم يؤثر في المعتاد ، أو المعقول للناس ، أن يبكوا لشئ . لكن قضية الحسين أبي عبد الله عليه السلام ، قد أقيمت الأحزان عليها قبل وقوعها بأكثر من نصف قرن ، واستمر الحزن عليها إلى الأبد ، فهي إلى القيامة باقية . والذين أثاروا هذا الحزن ، قبل كربلاء ، وأقاموا المآتم بعد كربلاء : هم الأئمة من أهل البيت عليهم السلام . فمنذ ولد الحسين عليه السلام أقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم مآتم على سبطه الوليد ذلك اليوم ، الشهيد بعد غد . ‹ صفحة 181 › فكيف يقيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجلس الحزن على قرة عينه ، يوم ولادته ، أهكذا يستقبل العظماء مواليدهم ؟ أو لا يجب أن يستبشروا بالولادات الجديدة ، ويتهادوا التهاني والأفراح والمسرات ؟ ! وتتكرر المجالس التي يعقدها الرسول العظيم ، ليبكي فيها على وليده ، ويبكي لأجله كل من حوله ، وفيهم فاطمة الزهراء عليها السلام أم الوليد ، وبعض أمهات المؤمنين ، وأشراف الصحابة ( 1 ) . وحقا عد ذلك من دلائل النبوة ومعجزاتها ( 2 ) . وهكذا أقام الإمام علي عليه السلام ، مجلس العزاء على ولده الحسين عليه السلام ، لما مر على أرض كربلاء ، وهو في طريقه إلى صفين ، فوقف بها ، فقيل : هذه كربلاء ، قال : ذات كرب وبلاء ، ثم أومأ بيده إلى مكان ، فقال : هاهنا موضع رحالهم ، ومناخ ركابهم ، وأومأ بعده إلى موضع آخر ، فقال : هاهنا مهراق دمائهم ( 3 ) . ونزل إلى شجرة ، فصلى إليها ، فأخذ تربة من الأرض فشمها ، ثم قال : واها لك من تربة ، ليق
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 175 › ( 1 ) مستدرك الوسائل ( 2 : 186 ) أبواب العود إلى منى ، الباب ( 17 ) الحديث ( 5 ) وطبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام ( 10 / 166 ) رقم ( 11770 ) . ويلاحظ أن الراوي عن الإمام مسمى ب‍ ( شبلي ) وليس في الرواة عنه ، ولا من عاصره من هو بهذا الاسم ، ولعله مصحف ( شيبة ) وهو ابن نعامة ، المذكور في أصحابه عليه السلام . ( 2 ) حلية الأولياء ( 3 : 141 ) وفرائد السمطين للحمويني ( 2 : 233 ) وكشف الغمة ( 2 : 103 - 105 ) ولاحظ : المقنعة للشيخ المفيد ( ص 363 ) الباب ( 32 ) ووسائل الشيعة ، كتاب الصوم ، أبواب بقية الصوم الواجب ، الباب ( 10 ) الحديث ( 1 ) . ‹ هامش ص 176 › ( 1 ) اقتباس من القرآن الكريم ، سورة البقرة ( 2 ) الآية : 206 . ( 2 ) اقتباس من القرآن الكريم ، سورة الأحزاب ( 33 ) الآية ( 57 ) . ( 3 ) الاحتجاج ( ص 320 - 321 ) . ‹ هامش ص 177 › ( 1 ) مروج الذهب ( 3 : 80 ) وانظر ما مضى ص ( 71 ) الفصل الأول . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث 42 ) ومختصره لابن منظور ( 17 : 4 - 235 ) . ‹ هامش ص 178 › ( 1 ) لاحظ الفكر الشيعي ( ص 31 و 68 ) والصلة بين التصوف والتشيع ( ص 148 ) و ( ص 151 و 157 ) وانظر خاصة ( ص 161 ) . ‹ هامش ص 180 › ( 1 ) الخصال للصدوق ( ص 272 ) وأمالي الصدوق ( المجلس 29 ) ص ( 121 ) ‹ هامش ص 181 › ( 1 ) إقرأ عن المجالس التي أقامها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كتاب : سيرتنا وسنتنا للأميني ، ولاحظ تاريخ دمشق لابن عساكر ، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام ( ص 165 - 185 ) . ( 2 ) دلائل النبوة للبيهقي ( 6 : 468 ) ومسند أحمد ( 3 : 242 و 265 ) وانظر أمالي الصدوق ( ص 126 ) ودلائل النبوة ، لأبي نعيم ( ص 709 ) رقم ( 492 ) . ( 3 ) وقعة صفين ( ص 141 ) والمصنف لابن أبي شيبة ( 15 : 98 ) رقم ( 191214 ) وكنز العمال ( 7 : 105 و 110 ) وأمالي الصدوق المجلس ( 78 ) ( ص 478 و 479 ) . ( 4 ) تاريخ دمشق لابن عساكر ( ترجمة الإمام الحسين عليه السلام ) ( ص 235 ) رقم 280 وانظر الأرقام ( 236 - 239 ) . ( 5 ) أمالي الصدوق ( المجلس ( 24 ) ص 101 ) . ( 6 ) فضل زيارة الحسين للعلوي ( ص 41 ) الحديث ( 13 ) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 181 - 188
لن بك قوم يدخلون الجنة بغير حساب ( 4 ) . ورثاه أخوه الحسن عليه السلام وقال له : لا يوم كيومك يا أبا عبد الله . . . ويبكي عليك كل شئ . . . ( 5 ) . وحتى الحسين عليه السلام نفسه ، نعى نفسه ودعا إلى البكاء على مصيبته ، وحث المؤمنين عليه ، حيث قال : أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن إلا بكى ( 6 ) . وهكذا الأئمة عليهم السلام بعد الحسين ، أكدوا على البكاء على الحسين بشتى الأشكال . ‹ صفحة 182 › لكن الإمام زين العابدين عليه السلام : قد تحمل أكبر الأعباء ، في هذه المحنة ، إذ عايش أسبابها ، وعاصر أحداثها ، بل باشر جراحها وآلامها ، فكان عليه أن يؤدي رسالتها ، لأنه شاهد صدق من أهلها ، بل الوحيد الذي ملك أزمة أسرارها ، ولا بد أن يمثل أفضل الأدوار التي لم يبق لها ممثل غيره ، ولم تبق لها صورة في أي منظار ، غير ما عنده ! وإذا عرفنا بأن الإمام زين العابدين عليه السلام هو أوثق من يروي حديث كربلاء ، فهو أصدق الناقلين له ، وخير المعبرين عنه بصدق . وأما أهداف شهداء كربلاء التي من أجلها صنعت ، فلا بد لها أن تستمر ، ولا تنقطع عن الحيوية ، في ضمير الناس ووجدانهم ، حتى تستنفد أغراضها . وبينما الحكام التائهون لا يعبأون ببكاء الناس ، فإن الإمام زين العابدين عليه السلام اتخذ من البكاء عادة ، بل اعتمدها عبادة ، فقد كانت - وفي تلك الفترة بالذات - وسيلة هامة لأداء المهمة الإلهية التي حمل الإمام عليه السلام أعباءها . والناس ، لما رأوا الإمام زين العابدين عليه السلام يذرف الدموع ليل نهار ، لا يفتأ يذكر الحسين الشهيد ومصائبه ، فهم : بين من يدرك : لماذا ذلك البكاء والحزن ، والدمع الذارف المنهمر ، والحزن الدائب المستمر ؟ وعلى من يبكي الإمام عليه السلام ؟ فكان ذلك سببا لاستمرار الذكرى في الأذهان ، وحياتها على الخواطر ، وبقاء الأهداف حية نابضة ، في الضمائر ووجدان التاريخ ، وتكدس النقمة والنفرة من القتلة الظلمة . وبين من يعرف الإمام زين العابدين بأنه الرجل الفقيه ، الزاهد في الدنيا ، الصبور على مكارهها ، فإنه لم يبك بهذا الشكل ، من أجل أذى يلحقه ، أو قتل أحد ، أو موت آخر ، فإن هذه الأمور هي مما تعود عليها البشر - على طول تاريخ البشرية - بل هي سنة الحياة . كما قال القائل : له ملك ينادي كل يوم * لدوا للموت وابنوا للخراب ‹ صفحة 183 › وخصوصا النبلاء والنابهين ، والأبطال الذين يقتحمون الأهوال ويستصغرونها من أجل أهداف عظام ومقاصد عالية رفيعة . فبكاء مثله ، ليس إلا لأجل قضية أكبر وأعظم ، خاصة البكاء بهذا الشكل الذي لا مثيل له في عصره ( 1 ) . لقد ركز الإمام زين العابدين


 

رد مع اقتباس