تعليق فيه تحقيق : في سؤال خديجة ما سألته أم مريم ( عليها السلام ) نذكر في هذا المورد بعض الأخبار المعتبرة ، وستخلص منها النتائج المفيدة إن شاء الله ، منها ثلاثة أخبار لا محيص من ذكرها ، وكل واحد منها يدل دلالة صريحة واضحة على جلالة شأن خديجة الطاهرة وفاطمة المطهرة ( عليهما السلام ) .
الأول : روى عن طريق الشيعة في تفسير أهل البيت وتفسير منهج الصادقين : لما حملت خديجة ( عليها السلام ) بفاطمة دعت الله كما دعته امرأة عمران بن ماثان أم مريم ، فقالت : يا رب إنك سميع عليم تعلم أني أفضل من امرأة عمران ، وبعلي أفضل من عمران ، وقد نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني ، فهبط الأمين جبرئيل وقال : قل يا رسول الله لخديجة أن الله يقول « لا إعتاق قبل الملك ، خلي بيني وبين صفوتي فإني أملكها هي أم الأئمة وعتيقتي من النار » فقالت خديجة : فرحت بهذه البشارة .
وفي الحديث نكات ينبغي توضيحها : أولا : إن هذا النذر كان مشروعا في سالف الأزمان حيث كان الأب ينذر ابنه ليكون خالصا للعبادة والخدمة في بيت المقدس ، وكان متعلق النذر هم الأولاد الذكور ، لما للإناث من موانع تمنعهن من المكث دائما في المسجد كالحيض وغيره ، وكان يومها أولاد وغلمان كثيرون محررون لبيت المقدس ، حتى قيل أنهم بلغوا أربعة آلاف ، وأم مريم نذرت ما في بطنها على وجه العموم ، ولم تحدد ما إذا كان ذكرا أو أنثى ، كما أخبر عنها القرآن الكريم ( إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم ) .
ثانيا : أرادت خديجة أن تعمل بالنذر المشروع سابقا ، بنية أن يكون مشروعا في الشريعة الجديدة ، فنذرت ما في بطنها على وجه العموم ليكون محررا لخدمة المسجد الحرام خالصا لوجه الله ، فلا يشتغل بخدمة من الخدمات الدنيوية .
ثالثا : هبط جبرئيل ليقول « لا إعتاق قبل الملك » ، والعتق تحرير العبد وتخليصه من الرقية ، ولذا سميت الكعبة « البيت العتيق » لأنها لا تملك ، فالعبارة تعني أن فاطمة مملوكتي ، فأنى لك عتقها ؟ !
رابعا : قال « هي أم الأئمة » ، وهذه البشارة أفرحت خديجة ، فأي علاقة بين هذه البشارة وبين مقصودها ؟ !
خامسا : قال « وعتيقتي من النار » ، فأي جواب هذا لخديجة الطاهرة ؟ !
والجواب الصواب لهذه المقالات الخمسة تجده في الحديث الشريف المروي في أصول الكافي ، وأحاديث أهل البيت يبين بعضها بعضا .
الثاني : روى في الكافي عن الصادق ( عليه السلام ) قال : إن الله تعالى أوحى إلى عمران « إني واهب لك ذكرا سويا مباركا يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ، وجاعله رسولا إلى بني إسرائيل » فحدث عمران امرأته حنة بذلك ، وهي أم مريم ، فلما حملت كان حملها بها عند نفسها غلام ( فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى ) أي لا يكون البنت رسولا . . .
الثالث : في معاني الأخبار وتفسير علي بن إبراهيم القمي : دخل ابن أبي أسعد على الرضا - صلوات الله عليه - فقال له : أبلغ الله من قدرك أن تدعي ما ادعى أبوك ؟ فقال له : مالك أطفأ الله نورك وأدخل الفقر بيتك ، أما علمت أن الله تبارك وتعالى أوحى إلى عمران : إني واهب لك ذكرا فوهب له مريم ، ووهب لمريم عيسى ، فعيسى من مريم ، ومريم من عيسى ، ومريم وعيسى شئ واحد ، وأنا من أبي وأبي مني ، وأنا وأبي شئ واحد .
والمراد أن الله أوحى إلى عمران « بشارة الولد » وهو دليل على نبوته ، وذكر المجلسي قولا في نبوته ، وذكر في موضع آخر أنه كان إمام بني إسرائيل وصاحب قربانهم - وكانت حنة جدة عيسى اعتقدت بالوحي الإلهي والبشارة السماوية التي بشرها بها زوجها ، وكانت تنتظر الولد الوعود ، فلما حملت نذرت ما في بطنها محررا لما اعتقدتها من كونه ذكرا ، فلما وضعتها أنثى ( قالت إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى ) أي إنك وعدتني بذكر يكون رسولا وهذه أنثى . قال المفسرون : كان حق العبارة أن تقول « ليس الأنثى كالذكر » فعكست .
قال البيضاوي : جعلت الأصل فرعا والفرع أصلا لإثبات المراد كما يقال : القمر كوجه زيد مع أن القمر هو الأصل وزيد هو الفرع ، وهو استعمال جار في الأعم الأغلب في المبالغات في نفي التشبيه والجنسية .
قال علي بن الحسين المسعودي : « مراد حنة أن الولد الموعود في الفضل والعمل والإخلاص ليس كمثل هذه البنت ، والرسالة خاصة بالذكور وليس للإناث نصيب فيها » وهو الحق لأن الله أعطى مريم ( عليها السلام ) عيسى فعرفت حنة أنه الولد الموعود ، وابن البنت ابن .
أما خديجة فإنها كانت تعلم بأن وليدها أنثى ، للبشرى التي سمعتها من النبي ( صلى الله عليه وآله ) أيام حملها ، فكان دعاؤها أن يرزق الله بنتها ما رزقه مريم ، فأجابها الله الرؤوف المنان أن فاطمة الزهراء « مملوكتي » مكان قوله ( فتقبلها ربها بقبول حسن ) ، وبشرها بالتحرير وعاقبة التحرير والفائدة المتوخاة منه إنما هي العتق من النار ، فبشرها الله بذلك وحقق مرادها ومطلوبها .
وقال : إذا كنت أعطيت مريم ولدا واحدا ، فإني معط فاطمة ( عليها السلام ) أولادا عديدين .
وإذا كان عيسى مباركا ، فأولاد فاطمة ( عليها السلام ) مباركون وهم أئمة العباد في الأرض إلى يوم القيامة ، وكل منهم حجة لله على الخلق أيام حياته .
ويستفاد من حديث الإمام الرضا ( عليه السلام ) أن الأئمة المعصومين كلهم نور وحد وسبيلهم واحد لا تغاير بينهم .
ثم قال الله في حديث خديجة إن فاطمة « صفوتي » بإزاء اصطفاء مريم ، حيث قال : ( إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ) فمريم اصطفيت من نساء عالمها وفاطمة « صفوة » الله من نساء العالمين .
ولربما تكلمت فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) عند الولادة لتنبأ أمها خديجة بإنجاز الوعد الموعود ، فذكرت أسماء الأئمة المعصومين ( عليهم السلام ) لتعلم خديجة وتتيقن أن المولود هي أم الأئمة الذين سينورون فيما بعد عرصات الوجود والشهود .
وعليه فإن حنة حررت ما في بطنها وكانت النتيجة الخالصة لهذا التحرير عيسى ( عليه السلام ) ، وخديجة الطاهرة حررت ما في بطنها أيضا فكانت النتيجة أحد عشر إماما معصوما ( عليهم السلام ) يقتدى عيسى النبي العظيم بآخرهم .
فخديجة أفضل من حنة ، والنبي ( صلى الله عليه وآله ) أفضل من عمران ، وأبناء فاطمة ( عليها السلام ) أفضل من عيسى ( عليه السلام ) ، وهو ما قاله حسان بن ثابت في شعره :
وإن أحصنت مريم فرجها * فجاءت بعيسى كبدر الدجى
فقد أحصنت فاطم بعدها * فجاءت بسبطي نبي الهدى
ولا يخفى أن عتق فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) من النار المذكور في الحديث يعني التحرير واقعا ، ويعني الحرية ، وكونها « الحرة » كما مر في الحديث عن معنى « الحرة » ، وهو معنى اسم « فاطمة » ، أي إن الله فطمها وأعتقها وذريتها وشيعتها من النار ، كذا في كتب العامة فضلا عن الخاصة .
تشريف شريف إعلم ; إن فاطمة ( عليها السلام ) ولدت في مكة المكرمة في بيت خديجة الطاهرة ، وكان ملكا خاصا لها ، وهو معروف بدار خزيمة ، وعرف في هذا الزمان بمولد فاطمة ( عليها السلام ) ، يزوره أهل مكة وغيرهم ، والمطوفون والخدام يعلمون مدى محبة الحجاج العجم لفاطمة ، لذا يبادرون إلى إرشاد الخاص والعام منهم ممن لا يعرف المكان ، ليزوروا ويتبركوا فينالون منهم شيئا من العطاء .
وقد زرت ذلك المحل المبارك ووجدت فيه صفاءا وروحانية ونورانية خاصة ، ومهما طال المقام بمحب آل العصمة في تلك الحجرة الشريفة ، فإنه لا يتعب ولا يتضايق ، بل يود لو يبقى الدهر كله هناك .
وشهد الله وعلم أنك ترى نزول البركات وإفاضة الرحمات محسوسة مشهودة هناك في كل آن ; كيف لا وهو موضع إجابة الدعوات وقضاء الحاجات ، وقد سعد به أهل مكة .
وفي كتاب الدر الثمين في فضائل البلد الأمين للشيخ أحمد الحضراوي : إن العرصات المنيفة والأماكن الشريفة في مكة التي لا يرد فيها الدعاء هي : عند الحجر الأسود ، والحطيم ، والمستجار ، وزمزم ، والملتزم ، وتحت الميزاب ، وداخل الكعبة ، وخلف المقام ، وبيت خديجة ، ولكنه قيد الحضور فيه بليلة الجمعة ، وقيد الحضور في مولد النبي ( صلى الله عليه وآله ) بيوم الاثنين .
وقال أهل السنة : إن مولد فاطمة أشرف البقاع المباركة في مكة المكرمة ، لأنها موضع ولادة بنات النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الطاهرات .
وقال الدياربكري : دار خديجة امتلكها عقيل بن أبي طالب وباعها لمعاوية بن أبي سفيان فجعلها في المسجد مع أنه مولد فاطمة ( عليها السلام ) ، وهو معارض لما قيل . ومن مفاخر الإنسان أن يكون محل ولادته معلوما محددا .
نعم إن ولادة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) كانت في أفضل الأمكنة وأشرف البقاع وأقدس المواضع على وجه الأرض ، كانت في الموضع الشريف المبارك الذي كان مختلفا لجبرئيل الأمين والملائكة الكروبين ومهبط الوحي والتنزيل .
ويكفي في جلالة فاطمة وعلو قدرها أنك لا تسمع ذكرا لبنات خديجة الطاهرات في هذا البيت منذ أول البعثة وإلى يومنا هذا ، وإنما يزوره المجاور والزائر لأنه مولد فاطمة فقط ، فيضع وجهه متذللا متضرعا على تلك الأعتاب ، ويرفع يديه مبتهلا في غاية الرقة ، ويتحسس لهيب الأشواق ، وفي مكة بيوت أخرى ولدت فيها بعض أمهات المؤمنين وغيرهن من مشاهير النساء ، غير أنك لا تجد من يعبأ بها أو يقبل عليها مخالفا كان أو مؤالفا .
أراد الله لهذا الاسم المبارك أن يشيع ويذيع بين أهل مكة ، وجعل محل ولادتها - وهي المستورة الكبرى - موضعا لإجابة الدعاء وموطنا لنزول البركات ، وكيف لا يكون كذلك ؟ وهي شجرة طاب أصلها ، وبسق فرعها ، وعذب ثمرها ، وبورك في الذر قدرها ، وقدست في الزبر وضعها .
ومن الشعائر التي يقيمها الزوار الشيعة والسنة بالإتفاق زيارة مولد فاطمة في بيت خديجة الطاهرة في مكة المكرمة ، فإقامة هذه الشعائر وبقاء هذه الآثار لها وقع خاص في القلوب والأنظار ، وهي برهان واضح لنا - معاشر الشيعة - على صدق تلك التشريفات المباركة التي قام بها النبي ( صلى الله عليه وآله ) وجبرئيل وخيار النسوان وحوريات الجنان في هذا المكان ، وتشريف هذا البنيان الذي شيد لفاطمة الزهراء سلام الله عليها .
والحمد لله الذي جعل أعداءنا يذعنون ويقرون بما نعتقد ونعمل ، وما دام الأمر كذلك فلا يغفل الحجاج عن الحضور في ذلك المولد المكرم والمكان المعظم ، فلا يحسبونه أقل شأنا من « بيت لحم » الذي ولد فيه عيسى ابن مريم ( عليهما السلام ) الذي صار مزارا للنصارى ، فليزوروا مولد فاطمة ( عليها السلام ) كل يوم مدة إقامتهم هناك لينالوا السعادة ، ولا يفوتهم الفوز بالزيارة .
في بيان المواليد في مكة المكرمة ومحال استجابة الدعاء واعلم أن من مواليد المعصومين ( عليهم السلام ) المشهورة في مكة ثلاث موالد :
أحدها : مولد النبي ( صلى الله عليه وآله )
وثانيها : مولد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في الكعبة في الركن اليماني على الرخامة الحمراء على رأي الشيعة وجماعة من أهل السنة .
وثالثها : مولد فاطمة الزهراء صلوات الله عليها .
ومولد النبي ( صلى الله عليه وآله ) في زقاق مكة المعروف ب « زقاق المولد » في الشعب المعروف بشعب بني هاشم في الطرف الشرقي من مكة ، وهو مزار معروف يزدحم فيه أهل مكة في الثاني عشر من ربيع الأول يوم ولادة الرسول عند السنة ، ويحتفلون ويظهرون السرور والفرح والابتهاج ويلبسون أفخر ثيابهم ويتطيبون وينشدون الشعر ، ثم يتوجهون منه إلى مولد فاطمة ( عليها السلام ) .
أما مولد عيسى ( عليه السلام ) المعروف في « بيت اللحم » بالقرب من بيت المقدس فهو مزار معروف في هذه الأيام ، وقد تشرفت بعد زيارة مدينة الخليل بزيارة قدس الخليل ، ورأيت النصارى يقدسون ذاك المكان ويعظمونه أشد تعظيم ، والظاهر من حديث المعراج أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) صلى في ذلك الموضع ، ولكن كثيرا من الأخبار تدل على أن مولد عيسى ( عليه السلام ) كان في أطراف الفرات والكوفة وكربلاء ، بل على رواية الشيخ الطوسي عن السيد السجاد ( عليه السلام ) أنها كانت في كربلاء ، وهي المراد من قوله ( فانتبذت به مكانا قصيا ) أي كربلاء .
نعم قد يكون لحم هو المكان الذي أجلست فيه عيسى عند رجوعها من كربلاء . وأنكر العلامة المجلسي على من استبعد ولادة السيد المسيح في كربلاء ، وقال : « لعلها محمولة على التقية لاشتهارها بين المخالفين » أو أنها اشتهرت على ألسنة أهل الكتاب لتكون حجة عليهم .
الخلاصة : كما أن الساعة واليوم والشهر والسنة التي ولدت فيها فاطمة الطاهرة صارت شريفة مباركة وصار الزمن سعيدا بها ، فكذلك مكان ولادتها ، إضافة إلى أن منزل خديجة كان مختلف الملائكة ومهبط الوحي والتنزيل مدة من الزمان ، ثم جاءت ولادة السيدة المخدرة ( عليها السلام ) هناك تزيد المكان مزية على مزية ، وخصوصية فوق خصوصية .
والآن نحن بعيدون عن ذاك المكان ، فحق علينا أن نؤدي حق زمان ولادتها في العام مرة ، وكما أن مكان ولادتها من محال إجابة الدعاء فكذلك يوم ولادتها .
والأفضل أن ننشر فضائلها ونروي مناقبها ونذكر كراماتها وآياتها الباهرة من المبدأ إلى المعاد ، ولا يكون ذلك إلا في المحافل والجوامع والمساجد والمجامع العامة والبيوت الرفيعة للأعاظم من بني فاطمة وأكابر السادات ، سيما العلماء منهم .
وينبغي أن يشجع شعراء العرب والعجم ، ويرغبون في إنشاد الشعر ونظم القصائد ، والإكثار من المديح وإكرام المادحين والذاكرين وإتحافهم بالهدايا ، وشد قلوب المحبين وشحذ هممهم وإجراء الدموع من أعينهم ، وتهييج العوام فهذه الأعمال ممدوحة أيما مديح ومستحسنة أيما استحسان .
اللهم إنا نتقرب إليك بحبها وحب من يحبها وأبرء من كل وليجة دونها وأتقرب إليك باللعنة على أعاديها والبراءة من ظالميها في الدنيا والآخرة .
|