سؤال وجواب: لكن قد يثار هنا سؤال وهو: ان الآية اذا كانت دليلاً على عصمة الخمسة(عليهم السلام) فلماذا جاءت بصيغة المضارع (انما يريد) ولماذا لم تكن (انما اراد الله ) فانهم اذا كانوا معصومين ثم يريد الله عصمتهم ـ فهو من تحصيل الحاصل(14).
ونجيب عن هذا السؤال ـ بأن القرآن مليء بهذا التعبير بشأن الامور المتعلقة بالارادة المستمرة ماضياً وحاضراً و مستقبلاً، وبتعبير آخر: ان الاتيان بالفعل المضارع غالباً ما يكون للدلالة على استمرار وثبات المشيئة على شيء ما في الماضي والحاضر والمستقبل. ويشهد على ذلك ملاحظة قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ}(15).
وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}(16).
وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ}(17).
فإن من البديهي ان مفهوم هذه الآيات ليس هو ان الله اراد ظلماً في السابق او كان يريد العسر أو أنه لم يرد سابقاً التخفيف. بل ان مفادها جميعاً ـ هو: ان الارادة ثابتة ومستمرة في الماضي والحاضر والمستقبل.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا}(18).
حيث يتضح جلياً ان ارادة الشيطان مستمرة في الماضي و الحاضر والمستقبل بهدف اغواء الناس وهناك آيات اخرى كثيرة في القرآن الكريم تبين أن المراد من كلمة (يريد) الاستمرارية وما يشمل الازمنة الثلاثة.
وعلى هذا الاساس يكون مفهوم الآية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ}، هو تعلق الارادة الالهية المستمرة بطهارة وقداسة وعصمة أصحاب الكساء(عليهم السلام).
وما المانع من اختيار الله بعض عباده وارادة طهارتهم وعصمتهم مع حاجة الناس الى ذلك. وما دام ذلك ينطلق من مصلحة عباده فما هي المشكلة في ذلك.
ومن الواضح ان الرسالات السماوية لم تأت للناس لتعطي النظريات أو تطلق الشعارات فقط، بل جاءت لتجسد نظرياتها في الواقع العملي و تضفي عليها قالباً من الواقعية في الخارج وفي الحياة العملية، وذلك من خلال أشخاص يعتبرون المشاعل الوضاءة في حياة الناس والدعاة للرسالة، حتى يقتدي الناس بهم وباعمالهم الصالحة، فهم هداة الناس والاسوة الحسنة كما قال تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(19) .
فالدين ليس مجرد نظريات تحفظ بل لابد فيه من التطبيق والعمل بهذه النظريات الالهية، ومن أوليات ما يقتضيه ضمان التطبيق ان يكون القائم على تطبيق تلك النظريات الدينية والمواقف الشرعية شخصاً تتجسد فيه مبادئ الفكر السماوي تجسداً مستوعباً لمختلف المجالات خلياً عن الافكار الشيطانية، ومن هنا كان الأنبياء والائمة(عليهم السلام) هم المثل الأعلى لجميع الناس والقدوة الصالحة لجميع الامم الامر الذي يؤكد عليه القرآن الكريم كثيراً قال تعالى: {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}(20).
وقال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}(21)
فالصراط والطريق الذي ينبغي علىالانسان سلوكه ويطلب من الله تعالى الهداية اليه هو صراط الذين انعم عليهم الذين قال سبحانه و تعالى عنهم {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا}(22)
فهؤلاء الذين أنعم الله عليهم هم القدوة الصالحة للناس وطريقهم هو الطريق المؤدي الى الله تعالى والخالي عن غضبه سبحانه، وعن كل ضلال.
وعليه فاذا كان المعصومون غير مختارين. فلم يتركوا المحرمات الالهية باختيارهم وارادتهم بل كان امتناعهم عنها نتيجة عدم قدرتهم واختيارهم، فهذا تأكيد لاتهام الدين بالمثالية في نظرياته وتأكيد لعدم قابلية النظرية للتطبيق في الواقع الخارجي، بل لم يكن ذلك مجرد اتهام إذ هو الحقيقة بعينها، لانه اذا لم يكن بمقدور الرسل والانبياء الذين يبلغون رسالات الله تعالى ويدعون الناس الى الدين الامتناع عن المحرمات الالهية الا بالجبر وسلب الاختيار، فكيف بباقي الناس، وهل من المعقول ان يدعو الدين الى الاقتداء بذوات لم تتمكن من كف نفسها عن المعاصي والرذائل وليس باستطاعتها امتثال الاوامر الالهية وغيرها من القيم والاخلاق التي يتضمنها الدين الا بالجبر والاضطرار.
ثم كيف بعد هذا يوجه قوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ }(23) .
ما ذكره الآلوسي في تفسيره(24) .
اورد الآلوسي على الاستدلال بالآية ما يلي:
حيث يقول: ـ رداً علىاستفادة العصمة من الآية الكريمةـ (وتعقبه بعض أحلّه المتأخرين، بانه لو فرض تعيّن كل ما ذهبوا اليه لا تسلم دلالتها على العصمة بل لها دلالة على عدمها اذ لا يقال في حق من هو طاهر: اني اريد ان اطهره، ضرورة امتناع تحصيل الحاصل، وغاية ما في الباب ان كون هؤلاء الاشخاص (رض) محفوظون من الرجس والذنوب بعد تعلّق الارادة باذهاب رجسهم يثبت بالآية ولكن هذا على اصول اهل السنة لان وقوع مراده تعالىغير لازم عندهم لارادته مطلقاً.
وبالجملة لو كانت افادة معنى العصمة مقصودة لقيل هكذا: ان الله اذهب عنكم الرجس اهل البيت وطهركم تطهيراً.
ولكن يرد عليه: ان هذه النسبة للشيعة بان ارادته تعالىلا تستتبع وقوع الفعل المراد فهي نسبة غريبة جدا لم يذهب اليها احد من الشيعة وليته دلنا ولو علىشيعي واحد يومن بهذا الرأي. وقد تقدم البحث في الارادة وان المراد لا يمكن تخلفه عن الارادة (اذا اراد الله للشيء ان يقول له: كن فيكون) في الارادة التكوينية.
وما ذكره: اذ لا يقال في حق من هو طاهر اني اريد ان اطهّره ضرورة امتناع تحصيل الحاصل.
والجواب: فان كان يقصد بذلك التعبير بـ (يذهب) في الآية كما يظهر من فحوى كلامه المتقدم خصوصا المقطع الاخير منه بملاحظة ان معنىالاذهاب هو الرفع لا الدفع اي رفع الرجس الموجود وعليه فلا تدل الآية على العصمة بل دلالتها على عدم العصمة أوضح.
فالجواب عنه نقضاً و حلاً:
اما نقضاً: فإنه مما لا خلاف فيه بين المفسرين والمحدثين ان رسول الله(صلى الله عليه وآله) ممن شملته الآية الكريمة فان كان اذهاب الرجس عنه(صلى الله عليه وآله) عند نزول الآية او على حد تعبيره (ان كون هؤلاء الاشخاص(عليهم السلام) محفوظين من الرجس والذنوب بعد تعلق الارادة باذهاب رجسهم) فلازمه عدم طهارته قبل نزول الآية وهذا ما لا يلتزم به القائل بل هو مخالف لجميع المسلمين اذ لا يستريب احد منهم في عصمة النبي الاكرم(صلى الله عليه وآله) من حين البعثة علىاقل التقادير و تأخر نزول هذه الآية عن البعثةبمدة ليست بالوجيزة من الواضحات.
وأما حلاً: فان لفظة (اذهب) ومشتقاتها تطلق في الاستعمال العربي الشائع ويراد منها الرفع والدفع اي رفع الحاصل او دفع ما هو ممكن الحصول و نصوص السنةالشريفة خير شاهد على ذلك فقد ورد عن النبي(صلى الله عليه وآله) انه قال: (من اطعم اخاه حلاوة أذهب الله عنه مرارة الموت)(25).
وعن اميرالمؤمنين(عليه السلام): (من ابتدأ بالملح اذهب الله عنه سبعين نوعاً من البلاء)(26).
فمن هذه النصوص نتعرف على معنى (اذهب) حيث استعملت في هذه النصوص بمعنى دفع ما يمكن ان يحصل، لا انه رفعها بعد ان كانت موجودة فيه.
قال السيد علي خان في رياض السالكين شرح الصحيفة السجادية عند قوله(عليه السلام): (فأزح عنا ريب الارتياب).
ليس المراد بالازاحة والاذهاب هنا ازالة ريب الارتياب بعد كونه وحصوله وان كان معناه في اصل الوضع كذلك بل هو من قبيل قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ}... ومعناه حسم اسباب الحرص وعدم الاعداد له رأسا لا ازالته بعد حصوله ومن هنا يتجلى المراد من الآية الشريفة لقوله تعالى: {لِيُذْهِبَ عَنكُمُ} ويتم الاستدلال على دفع الرجس وابعاده عن هؤلاء البررة.
وتعبيره تعالى ليذهب عنهم الرجس وليس ليذهبهم عنه او يصرفهم عنه تأكيد فضيلة لهم على نحو ما جاء في بيان فضيلة بعض الانبياء(عليهم السلام) وهو يوسف(عليه السلام) حيث قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}(27) فكان السوء والفحشاء مصروفين عنه و ليس هو المنصرف عنهما وهذا يعني مزيد عناية ولطف من الله به اذ دفع ذلك عنه لانه وقع فيهما ثم انصرف بفضل الله تعالى.
|