تبرّك الصحابة بأماكن صلّى فيها النبيّ(صلى الله عليه وآله)
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 45
--------------------------------------------------------------------------------
تبرّك الصحابة بأماكن صلّى فيها النبيّ(صلى الله عليه وآله)
وهذا أيضاً من الاُمور التي خالفت فيها السلفية، ثمّ الوهابية جمهورَ المسلمين فيه، فسيرة المسلمين على وجه العموم وعلى مرّ الأعصار هو التبرّك بكل مكان حلَّ فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله)واعتباره مكاناً مباركاً، وبخاصة الأماكن التي كان يكثر المكث فيها، كمجلسه من منبره، وغار حراء، ومسكنه وغير ذلك، باعتبارها أماكن قد اكتسبت بركتها من جسم النبي الأقدس(صلى الله عليه وآله)، فكما كان الصحابة يتبرّكون بملامسة جسده الشريف، فإن المسلمين ـ ومنهم الصحابة الكرام ـ كانوا يتبركون بالأماكن التي لامسها جسده الشريف أيضاً.
ولا يخالف المسلمين في ذلك غير الفرقة الوهابية فيمنعون من التبرّك بتلك الأماكن المباركة، أو بالأماكن التي صلّى فيها رسول الله(صلى الله عليه وآله)ويحتجّون بأدلة واهية، كقول ناصر بن عبدالرحمن ابن محمد الجديع محتجّاً بدليلين، أحدهما: أ نّه لا يوجد دليل من النصوص الشرعية يفيد جواز ذلك الفعل أو استحبابه. وثانيهما: أنّ الصحابة لم ينقل عن أحد منهم أنّه تبرّك بشيء من المواضع التي جلس فيها رسول الله(صلى الله عليه وآله)، أو البقع التي صلّى عليها عليه الصلاة والسلام اتفاقاً، مع أنّهم أحرص الاُمّة على التبرّك بالرسول(صلى الله عليه وآله)، ومع
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 46
--------------------------------------------------------------------------------
علمهم بتلك المواضع وشدّة محبّتهم للرسول(صلى الله عليه وآله)وتعظيمهم له، واتّباعهم لسنّته(1).
هذان الدليلان اللّذان يسوقهما الجديع معتقداً بأنّه قد فتح فتحاً في هذا الشأن، هما في الحقيقة أوهى من خيط العنكبوت، إذ إن عدم وجود دليل من النصوص الشرعية بجواز ذلك أو استحبابه، يقابله من الجهة الاُخرى عدم وجود دليل من النصوص الشرعية بعدم جواز ذلك أو كراهته، والقاعدة أ نّه إذا لم يوجد دليل على التحريم، دل ذلك على الإباحة.
أما ادعاؤه بأنّه لم ينقل عن أحد من الصحابة أنّه تبرّك بشيء من ذلك، فهو أسقط من حجّته الاُولى، فقد أخرج المحدّثون ما ينقض هذا الإدّعاء، وقد مرّ مثله الشيء الكثير، وأيضاً:
فعن موسى بن عقبة قال: رأيت سالم بن عبدالله يتحرّى أماكن من الطريق فيصلّي فيها. ويحدّث أنّ أباه كان يصلي فيها، وأنّه رأى النبي(صلى الله عليه وآله) يصلّي في تلك الأمكنة. وحدّثني نافع عن ابن عمر أنّه كان يصلي في تلك الأمكنة، وسألت سالماً فلا أعلمه إلاّ وافق نافعاً في الأمكنة كلّها إلاّ أ نّهما اختلفا في مسجد بشرف
____________
1- التبرّك أنواعه وأحكامه: 243 ـ 244.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 47
--------------------------------------------------------------------------------
الروحاء(1). قال ابن حجر في شرحه للحديث: عُرف من صنيع ابن عمر استحباب تتبع آثار النبي(صلى الله عليه وآله) والتبرّك بها(2).
وقال ابن عبدالبرّ: كان [ابن عمر]; كثير الاتّباع لآثار رسول الله(صلى الله عليه وآله)... وكان يتقدّم في المواقف بعرفة وغيرها الى المواضع التي كان النبي(صلى الله عليه وآله) وقف بها(3).
وقال ابن الأثير: إنّ عبدالله بن عمر كان كثير الاتّباع لآثار رسول الله(صلى الله عليه وآله) حتّى أنّه ينزل منازله ويصلي في كل مكان صلّى فيه، وحتّى أنّ النبي(صلى الله عليه وآله) نزل تحت شجرة، فكان ابن عمر يتعاهدها بالماء لئلا تيبس(4).
وعن نافع: أنّ عبدالله بن عمر كان ينيخ بالبطحاء التي بذي الحليفة التي كان رسول الله(صلى الله عليه وآله)ينيخ بها ويصلّي بها(5).
وقال الواقدي: وعن أفلح بن حميد، عن أبيه قال: كان ابن عمر يخبر أن النبي(صلى الله عليه وآله)جلس تحت السمرة، وأن ابن عمر كان يصب
____________
1- صحيح البخاري: 1/130، كنز العمال: 6/247، الإصابة: 2/349، حرف العين، القسم الأوّل، ترجمة عبدالله بن عمر، رقم 4834، البداية والنهاية: 5/149.
2- فتح الباري: 1/469، وفي الصارم: 108 عن الإمام مالك انّه يستحب الصلاة في مواضع صلاة النبي(صلى الله عليه وآله).
3- الاستيعاب: 2/342 بهامش الإصابة، ترجمة عبدالله بن عمر.
4- اُسد الغابة: 3/340، ترجمة عبدالله بن عمر، رقم 3080.
5- مسند أحمد: 2/269، ح 5968، صحيح البخاري: 3/140، صحيح مسلم: 2/1981.
.................................................. .............................
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 48
--------------------------------------------------------------------------------
الأدواة تحتها في أصل السمرة يريد بقاءها(1).
فلو كان عمل ابن عمر غير جائز، لأنكر عليه الصحابة ذلك ونهوه عنه.
وقال العلياني ـ في التبرّك الممنوع بالأمكنة والجمادات ـ:
... ولا يعكر على هذا ما رواه البخاري في صحيحه: أن عتبان ابن مالك ـ وهو من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) ممن شهد بدراً من الأنصار ـ أنّه أتى رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله، قد أنكرت بصري، وأنا اُصلّي لقومي، فإذا كانت الأمطار، سال الوادي الذي بيني وبينهم لم أستطع أن آتي مسجدهم فاُصلي بهم، وددت يا رسول الله أنّك تأتيني فتصلّي في بيتي، فأتّخذه مصلى. قال: فقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله): "سأفعل إن شاء الله". قال عتبان: فغدا رسول الله(صلى الله عليه وآله)وأبو بكر حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول الله(صلى الله عليه وآله)فأذنت له، فلم يجلس حين دخل البيت، ثم قال: "أين تحب أن اُصلي من بيتك؟" قال: فأشرت له الى ناحية من البيت، فقام رسول الله(صلى الله عليه وآله) فكبّر، فقمنا فصففنا، فصلّى ركعتين ثم سلّم(2).
وذلك لأنّه ليس قصد عتبان أن يتبرّك بالموضع الذي صلّى فيه
____________
1- مغازي الواقدي: 2/1096، باب حجة الوداع.
2- صحيح البخاري: 1/ 115، 170، 175، صحيح مسلم: 1/445، 61، 62.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 49
--------------------------------------------------------------------------------
رسول الله(صلى الله عليه وآله). وإنّما قصده أن يقرّه الرسول(صلى الله عليه وآله) على الصلاة جماعة في داره عند عدم استطاعته حضور الجماعة عندما يسيل الوادي، فأراد أن يفتتح له رسول الله(صلى الله عليه وآله)مسجداً في منزله، ولأجل هذا بوّب البخاري في صحيحه بعنوان: باب المساجد في البيوت. وصلّى البراء بن عازب في مسجده في داره جماعة ـ وهذا من فقهه يرحمه الله ـ فالمقصود هو أن يسنّ له الرسول(صلى الله عليه وآله)الصلاة جماعة في منزله عند الحاجة. كما أن الصحابي الآخر البراء بن عازب فعل الجماعة في مسجده في داره ولم ينكر عليه، وهو في زمن التشريع. وقد يكون من مقصود عتبان اصابة عين القبلة، فإن الرسول(صلى الله عليه وآله)لا يقرّ على خطأ لو صلّى الى غير جهة القبلة(1).
أقول: لا شكّ أن رغبة الصحابي عتبان في تأدية الصلاة جماعة في بيته هو أحد الأسباب لذلك، ولكن ليس كلّها، فإن رغبته في التبرّك بموضع صلاة الرسول(صلى الله عليه وآله) واضحة. وقد فهم النبي(صلى الله عليه وآله)رغبة عتبان هذه، لذا ابتدره بالسؤال عن المكان الذي يحبّ أن يصلّي له فيه من بيته، ولو أن الأمر كما يقول العلياني، لصلّى النبي(صلى الله عليه وآله) في أي مكان من البيت يصلح لذلك.
ومن جهة ثانية، فإن ادّعاء العليان أن رغبة الصحابي عتبان في
____________
1- التبرّك المشروع: 68 ـ 69.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 50
--------------------------------------------------------------------------------
إصابة عين القبلة لا ينهض بحجّة، فإذا كان عتبان لا يبصر جيداً فقد كان في مقدور أهله أو غيره من الصحابة أن يدلّوه عليها، ولما احتاج الأمر لأن يصلي النبي(صلى الله عليه وآله) ركعتين في ذلك الموضع ـ ممّا يدل على أنها لم تكن فريضة ـ وكان يكفيه أن يشير الى مكان القبلة ليستدل بها الصحابي عليها!
ولا أظن أن العليان كان أقدر على الفهم من العلاّمة ابن حجر العسقلاني الذي قال في شرحه للحديث:
وإنّما استأذن النبي(صلى الله عليه وآله) لأنه دُعي للصلاة ليتبرّك صاحب البيت بمكان صلاته، فسأله ليصلّي في البقعة التي يجب تخصيصها بذلك(1)...
وقال أيضاً: في حديث عتبان وسؤاله النبي(صلى الله عليه وآله) أن يصلي في بيته ليتّخذه مصلّى وأجابه النبي(صلى الله عليه وآله)الى ذلك، فهو حجة في التبرّك بآثار الصالحين(2).
وإذا كان طلب عتبان من النبي(صلى الله عليه وآله) الصلاة في بيته للأسباب التي ادّعاها، فبماذا نفسّر طلب اُمّ سليم وغيرها من الصحابة من النبي(صلى الله عليه وآله) الصلاة في بيوتهم، فيما أخرج المحدثون، وكما يأتي:
____________
1- فتح الباري: 1/433.
2- المصدر السابق: 1/469.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 51
--------------------------------------------------------------------------------
1 ـ عن أنس بن مالك: أنّ اُمّ سليم سألت رسول الله(صلى الله عليه وآله) أن يأتيها فيصلّي في بيتها فتتّخذه مصلّى، فأتاها، فعمدت الى حصير فنضحته بماء فصلّى عليه وصلّوا معه(1).
2 ـ وعنه أيضاً قال: صنع بعض عمومتي طعاماً فقال للنبي(صلى الله عليه وآله): إنّي أحب أن تأكل في بيتي وتصلّي. قال: فأتاه وفي البيت فحل من هذه الفحول، فأمر بناحية منه فكنس ورش، فصلّى وصلّينا معه(2).
3 ـ وعنه أيضاً، قال: كان رجل ضخم لا يستطيع أن يصلّي مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقال للنبي(صلى الله عليه وآله):
إنّي لا أستطيع أن اُصلّي معك، فلو أتيت منزلي فاقتدي بك. فصنع الرجل طعاماً ثم دعا النبي(صلى الله عليه وآله)، فنضح طرف حصير لهم فصلّى النبي (صلى الله عليه وآله) ركعتين(3).
فهل كان مقصود اُم سليم أنّ تؤم المسلمين في بيتها مثل عتبان عندما طلبت من النبي(صلى الله عليه وآله)أن يصلّي في بيتها، أم أنّها طلبته للتبرّك بالصلاة في الموضع الذي يصلي فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟
____________
1- سنن النسائي: 1/268، كتاب المساجد، باب 43 الصلاة على الحصير، ح 816.
2- سنن ابن ماجة: 1/249، كتاب المساجد، باب المساجد في الدور، ح 756، والفحل هو الحصير الذي قد اسود، مسند أحمد: 3/130 بسندين، مسند أنس بن مالك، ح 11920.
3- مسند الإمام أحمد: 3/586، ح 11920، ط مؤسسة التاريخ العربي.
--------------------------------------------------------------------------------
الصفحة 52
--------------------------------------------------------------------------------
وهل كان عمومة أنس والرجل الآخر ـ الذي لم يذكر اسمه ـ عمياناً أيضاً فجاء النبي(صلى الله عليه وآله)ليحدد لهم القبلة! وإذا لم يكن قصد الرجل التبرّك بموضع صلاة النبي(صلى الله عليه وآله)، أفلم يكن في استئذانه النبي بعدم الحضور الى المسجد ـ لتعذر ذلك عليه ـ كافياً دون الحاجة الى الطلب منه(صلى الله عليه وآله)أن يحضر ليصلي في بيته.
|