الصفحة 196
ج: الجواب عن روايات إلقاء الشيطان في الوحي
فبعضهم ردّ الاُسطورة وحكم بضعف إسنادها:
ومن هؤلاء: "القاضي عياض" قال:
"إنّ هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواهُ ثقة بسند سليم متصل وإنّما اُولِعَ به وبمثله المفسرون والمؤرّخون المولعون بكلّ غريب، المتلقّفون من الصحف كل صحيح وسقيم..."(1).
ثمّ بحث القاضي عياض طرق هذا الحديث، وانتهى إلى أنّ اضطراب متنها وانقطاع سندها واختلاف كلماتها دليل على ضعف تلك الرّوايات.
وقال أبو جعفر النحاس: "الحديثان منقطعان"(2).
وبعضهم قَبِل تلك الاُسطورة وعزاها إلى المفسرين. كالشيخ عبد القادر أبي صالح الجيلاني قال:
"قال أهل التفسير... نعس النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فألقى الشيطان على لسانه: الغرانيق العلى عندها الشفاعة ترتجى يعني الأصنام ففرح المشركون بذلك"(3).
وممّن تابع عبد القادر الجيلاني في رأيه، الخفاجي في "نسيم الرياض" فهو لم يقبل قول القاضي عياض، وكذا أبو بكر بن العربي الذي يقول: "إنّ طرق هذا الحديث كلّها باطلة" يقول الخفاجي:
"فإنّ له طرقاً متعددة كثيرة متتابعة المخارج وكل ذلك يدل على أنّ له أصلاً، وقد ذكرنا له ثلاثة أسانيد منها ما هو على شرط
____________
1 ـ الشفا بتعريف حقوق المصطفى: ج 2، ص 750.
2 ـ كتاب الناسخ والمنسوخ: ص 13.
3 ـ الغنية: ج 1، ص 195 ـ 196.
الصفحة 197
الصحيح..."(1).
وقد سار "ابن حجر" على هذه العقيدة فقال:
"... فإنّ الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أنّ لها أصلاً وقد ذكرت أنّ ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح... وإذا تقرر ذلك تعيّن تأويل ما وقع فيها ممّا يستنكر... فإنّ ذلك لا يجوز حمله على ظاهره لأنّه يستحيل عليه صلّى الله عليه وسلّم ان يزيد في القرآن عمداً ما ليس منه وكذا سهواً إذا كان مغايراً لما جاء به من التوحيد لمكان عصمته وقد سلك العلماء في ذلك مسالك..."(2).
ثمّ ذكر محامل العلماء في هذه المسألة ـ وأورد بحث ونقد القاضي عياض ـ تلك المحامل التي لا تسمن ولا تغني من الحقّ شيئاً، ومن شاء فليرجع إلى فتح الباري(3).
وظاهر كلام ابن تيمية أنـّه قبل اُسطورة الغرانيق حيثُ قال ـ وهو بصدد معنى المحكم والنسخ من آيات القرآن ـ:
"فإنّ الكلام هنا فيما يلقي الشيطان ممّا نسخه الله ثم يحكم الله آياته، وجعل المحكم ضد الذي نسخه الله مما ألقاه الشيطان ولهذا قال طائفة من المفسرين المتقدمين: إنّ المحكم هو الناسخ والمتشابه هو المنسوخ أرادوا والله أعلم قوله: (فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم آياته)(4)والنسخ هنا رفع ما ألقاه الشيطان لا رفع ما شرعه الله"(5).
____________
1 ـ نسيم الرياض: ج 4، ص 100.
2 ـ فتح الباري كتاب التفسير، تفسير سورة الحج: ج 8، ص 439.
3 ـ نفس المصدر: ج 8، ص 439.
4 ـ سورة الحج (22): الآية 52.
5 ـ التفسير الكبير: ج 2، ص 90.
|