:: منتديات ثار الله الإسلامي ::

:: منتديات ثار الله الإسلامي :: (http://www.tharollah.com/vb/index.php)
-   منتدى الامام علي بن الحسين عليه السلام (http://www.tharollah.com/vb/forumdisplay.php?f=60)
-   -   جهاد الامام السجاد عليه السلام (http://www.tharollah.com/vb/showthread.php?t=1689)

الشيخ حسن العبد الله 12-24-2010 05:09 PM

جهاد الامام السجاد عليه السلام
 
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 39 - 48
أدوار النضال في حياة الإمام عليه السلام
أولا : في كربلاء
ثانيا : في الأسر
ثالثا : في المدينة ‹ صفحة 41 ›
إنا نقرأ في سيرة الإمام السجاد عليه السلام - منذ البداية - صفحات من النضال الواضح ، بحيث لا يمكن تجاوزها ، والغض عنها بسهولة :
فحضوره في كربلاء .
ومواقفه في خطبه في الأسر .
وتخطيطه عند الوصول إلى المدينة .
ثلاث محطات للتأمل في سيرة الإمام السجاد عليه السلام ،
وفي بدايتها بالضبط ، تستدعي التوقف عندها لأخذ الشواهد العينية لمعرفة أبعاد نضاله المستقبلي .
وإني أعد هذه البداية مهمة جدا للبحث ،
إذ أنها توقفنا على اتجاه السهم السياسي الذي أطلقه الإمام السجاد عليه السلام ليصيب به هدفه الأول والأخير ،
والذي امتد سيره طول حياته الشريفة .

ولو تأملنا ما في هذه المحطات من أعمال ، وبظروفها وحوادثها ، نرى أنها لم تقصر - في الاعتبار السياسي - عن قعقعة السيوف وصليلها ، ولا عن عدو الخيول وضبحها وصهيلها ، ولا عن وغى العساكر ولجبها ! بل تتجاوز - في بعض الاعتبارات - أثر خروج محدود يؤدي إلى الشهادة ، في تلك الظروف الحرجة المعقدة التي غطى فيها التعتيم على الحقائق ، وظلل الإعلام كل الأجواء ، وأصم الدجل كل الآذان ، وأعمى التزوير كل الأبصار ، وكدر الظلم النور المؤدي إلى النظر الصائب .
فلنقف في كل نقطة مع أهم ما حفظ لنا من خلال المصادر ، ولنقرأ تلك الصفحات : ‹ صفحة 42 ›
أولا في كربلاء

لقد حضر الإمام السجاد علي بن الحسين ، في معركة كربلاء ، إلى جنب والده الإمام الحسين عليه السلام ،
وهذا ما تذكره كل المصادر بلا استثناء .
ويرد في مصادر الوقعة ، اسم ( علي بن الحسين ) في بعض مقاطع رحلة الإمام الحسين عليه السلام في طريقه إلى الشهادة ، وفي بعض الحديث بينه وبين ولده ( علي ) .
ولم يحدد المقصود من ( علي ) هذا ، هل هو السجاد عليه السلام أو أخوه ( علي ) الشهيد عليه السلام ؟
وقد اشتهر أنه هو الشهيد ، لكن ذلك غير مؤكد ، فلعل الذي ورد ذكره ، هو الإمام السجاد عليه السلام ( 1 ) .
والدلالات النضالية في هذا الحضور من وجوه :
أولا : إن هناك نصوصا تاريخية تدل على أن الإمام السجاد عليه السلام قد قاتل يوم عاشوراء وناضل إلى أن جرح ، وهي :
النص الأول : ما جاء في أقدم نص مأثور عن أهل البيت عليهم السلام في ذكر أسماء من حضر مع الحسين عليه السلام ، وذلك في كتاب ( تسمية من قتل ( 2 ) مع الحسين عليه السلام من أهل بيته وإخوته وشيعته ) الذي جمعه المحدث الزيدي الفضيل بن الزبير ، الأسدي ، الرسان ، الكوفي ، من أصحاب الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام ( 3 ) ‹ صفحة 43 › فقد ذكر ما نصه :
( وكان علي بن الحسين عليلا ، وارتث ، يومئذ ، وقد حضر بعض القتال ، فدفع الله عنه ، وأخذ مع النساء ) ( 1 ) .
ومع وضوح النص في قتال الإمام السجاد عليه السلام في كربلاء فإن كلمة ( ارتث ) تدل على ذلك ، لأنها تقال لمن حمل من المعركة ، بعد أن قاتل ، وأثخن بالجراح ، فأخرج من أرض القتال وبه رمق ، كما صرح به اللغويون ( 2 )
النص الثاني : ما جاء في مناقب ابن شهرآشوب - بعد ذكره مشهد علي بن الحسين المعروف بالأكبر وأن الإمام الحسين عليه السلام أتى به إلى باب الفسطاط ، أورد هذه العبارة
( فصارت أمه شهربانويه ولهى تنظر إليه ولا تتكلم ) ( 3 )
ومن المعلوم أن أم علي الشهيد هي ليلى العامرية أو برة بنت عروة الثقفي - كما يراه ابن شهرآشوب –
والمعروف أن ( شهربانويه ) هي أم علي بن الحسين عليه السلام ، فلا بد أن يكون قد سقط من عبارة مناقب شهرآشوب ذكر مبارزة علي بن الحسين السجاد عليه السلام ، وبهذا يكون شاهدا على ما نحن بصدده .
ومن المحتمل أن تكون العبارة مقدمة على موضعها في مقتل علي الأصغر الذي ذكره ابن شهرآشوب بعد هذا النص المنقول ، لأن ابن شهرآشوب ذكر أن أم علي السجاد هي أم علي الأصغر شهربانويه رضي الله عنها ( 4 ) .

النص الثالث :
ما جاء حول مرض الإمام عليه السلام ، إن المصادر تكاد تتفق على أن ‹ صفحة 44 › الإمام السجاد عليه السلام كان يوم كربلاء ، مريضا ، أو موعوكا ( 1 ) إلا أنها لم تحدد نوعية المرض ولا سببه ،
لكن ابن شهرآشوب روى عن أحمد بن حنبل قوله : كان سبب مرض زين العابدين عليه السلام أنه كان ألبس درعا ، ففضل عنه ، فأخذ الفضلة بيده ومزقها ( 2 ) .
وهذا يشير إلى أن الإمام إنما عرض للمرض وهو على أهبة الاستعداد للحرب أو على أعتابها ، حيث لا يلبس الدرع إلا حينذاك ، عادة .
ولا ينافي ذلك قول ابن شهرآشوب : ( ولم يقتل زين العابدين لأن أباه لم يأذن له في الحرب ، كان مريضا ) ( 3 ) .
لأن مفروض الأدلة السابقة أن الإمام زين العابدين قد أصيب بالمرض بعد اشتراكه أول مرة في القتال وبعد أن ارتث وجرح ،

فلعل عدم الإذن له في أن يقاتل كان في المرة الثانية وهو في حال المرض والجراحة . ولو فرض كونه مريضا منذ البداية فالأدلة التي سردناها تدل بوضوح على مشاركته في بعض القتال .

فمؤشرات الجهاد في سيرة الإمام السجاد عليه السلام هي :
أولا : حمله السلاح - وهو مريض - ودخوله المعركة ، إلى أن يجرح ،
يحتوي على مدلول بطولي كبير ، أكبر من مجرد حمل السلاح ! فلو كان حمل السلاح واجبا على الأصحاء ، فهو في الإسلام موضوع عن المرضى بنص القرآن ، لكن ليس حراما عليهم ذلك ، إذا وجدوا همة تمكنهم من أداء دور فيه .
ثانيا : إن وجود علي بن الحسين عليه السلام ، مع أبيه الإمام الحسين عليه السلام ، في أرض كربلاء ، حيث ساحة النضال المستميت ، وميدان التضحية والفداء ، وحيث كان الإمام ‹ صفحة 45 › الحسين عليه السلام يسمح لكل من حوله - وحتى أولاده وأهل بيته - بالانصراف ، ويجعلهم في حل ،
لهو الدليل على قصد الإمام للمشاركة في ما قام به أبوه .

قال الإمام السجاد عليه السلام : لما جمع الحسين عليه السلام أصحابه عند قرب المساء ، دنوت لأسمع ما يقول لهم ، وأنا إذ ذاك مريض ،
فسمعت أبي يقول : . . . أما بعد ، فإني لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي ، ولا أهل بيت أبر من أهل بيتي ، فجزاكم الله عني خيرا . . ألا ، وإني قد أذنت لكم ، فانطلقوا جميعا في حل ليس عليكم مني ذمام ، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا ( 1 ) .

ففي ذلك الظرف ، لا دور - إذن - للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بالمعنى الفقهي ، لأن الأخطار المحدقة كانت ملموسة ، ومتيقنة ومتفاقمة للغاية ، تفوق حد التحمل .
وقد أدرك ذلك كل من اطلع على أحداث ذلك العصر ، قبل اتجاه الإمام الحسين عليه السلام إلى العراق ، ممن احتفظ لنا التاريخ بتصريحاتهم ، فكيف بمن رافق الإمام الحسين عليه السلام في مسيره الطويل من المدينة إلى مكة وإلى كربلاء ، ومن أولاده وأهل بيته خاصة ؟ الذين لا تخفى عليهم جزئيات الحركة وأبعادها وأصداؤها وما قارنها من زعزعة الجيش الكوفي للإمام ، وسمعوا الإمام عليه السلام يصرح بالنتائج المهولة والأخطار التي تنتظر حركته ومن معه ! حتى وقت تلك الخطبة مساء يوم التاسع ، أو ليلة عاشوراء ؟ فلقد عرف من بقي مع الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء ، بأن ما يقوم به الإمام ليس إلا فداءا وتضحية ، لحاجة الإسلام إلى إثارة ، والثورة إلى فتيل ووقود ، واليقظة إلى جرس ورنين ، والنهضة إلى عماد وسناد ، والقيام إلى قائد ورائد ، والحياة الحرة الكريمة إلى روح ودم .
والإمام الحسين عليه السلام قد تهيأ ليبذل مهجته في سبيل كل هذه الأسباب لتكوين ‹ صفحة 46 › كل تلك المسببات .
ولم يكن مثل هذه الحقيقة ليخفى على علي بن الحسين السجاد عليه السلام الذي كان يومذاك في عمر الرجال ،
وقد بلغ ثلاثا وعشرين سنة وكان ملازما لأبيه الشهيد منذ البداية ، وحتى النهاية .
فكان حضوره مع أبيه عليه السلام وحده دليلا كافيا على روح النضال مع بطولة فذة ، تمتع بها أولئك الشجعان الذين لم ينصرفوا عن الحسين عليه السلام .
ثم هو - كما تقول تلك الرواية - قد شهر السلاح ، وقاتل بالسيف ، حتى أثخن بالجراح ، وأخرج من المعركة وقد ارتث .
وإذا كانت هذه الرواية - بالذات - زيدية ، فمعنى ذلك تمامية الحجة على من ينسب الإمام زين العابدين عليه السلام إلى اعتزال القيام والسيف والنضال .
ثالثا : مضافا إلى أن حامل هذه الروح ، قبل كربلاء ، لا يمكن أن يركن إلى الهدوء بعد ما شاهده في كربلاء من تضحيات أبيه وإخوته وأهله وشيعته ، وما جرى عليهم من مصائب وآلام ، وما أريق من تلك الدماء الطاهرة . أو يسكت ، ولا يتصدى للثأر لأبيه ، وهو ثار الله ، مع أنه لم ينسهم لحظة من حياته . فكيف يستسلم مثله ، ويهدأ ، أو يسالم ويترك دم أبيه وأهله يذهب هدرا ؟
إذ لم يبق من يطالب بثأر تلك الدماء شخص غيره . فإذا كان - كما يقول البعض : - ( مصرع الحسين عليه السلام في كربلاء هو الحدث التاريخي الكبير الذي أدى إلى بلورة جماعة الشيعة ، وظهورها كفرقة متميزة ذات مبادئ سياسية وصبغة دينية ( أكثر وضوحا وتميزا مما كانت عليه في زمان أمير المؤمنين عليه السلام وقبله ) .

وكان لمأساة أثرها في نمو روح الشيعة وازدياد أنصارها ، وظهرت جماعة الشيعة ، بعد مقتل الإمام الحسين عليه السلام ، كجماعة منظمة ، تربطها روابط ‹ صفحة 47 › سياسية متينة ) ( 1 ) .
فكيف لا تؤثر هذه المأساة في ابن الحسين ، وصاحب ثأره ، والوحيد الباقي من ذريته ، والوريث لزعامته بين الشيعة ، ولا تزيد نمو الروح السياسية عنده ؟ وكيف تجمع هذه المنظمة أفراد الشيعة بروابط سياسية ، ولكن تبعد علي بن الحسين عليه السلام عن السياسة ؟ !

وكيف تستبعد هذه المنظمة عن التنظيم ، وارث صاحب الثورة وصاحب الحق المهدور ؟
أليس في الحكم بذلك تعنت وجور ؟ ‹ صفحة 48 ›

ثانيا : في الأسر
إن البطولة التي أبداها الإمام السجاد عليه السلام بعد كربلاء ، وهو في أسر الأعداء ، وفي الكوفة في مجلس أميرها ، وفي الشام في مجلس ملكها ، لا تقل هذه البطولة أهمية - من الناحية السياسية - عن بطولة الميدان ، وعلى الأقل : لا يقف تلك المواقف البطولية من
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 42 › ( 1 ) لاحظ شرح الأخبار للقاضي ( 3 : 265 - 266 ) والإرشاد للمفيد ( 253 ) وانظر السرائر لابن إدريس ( 1 : 655 ) ، ولاحظ تواريخ النبي والآل للتستري ( ص 30 - 32 ) . ( 2 ) كذا في ما نقل عن هذا الكتاب في مصادره ، لكني أظن أن الكلمة هي ( قاتل ) لأن المذكورين لم يقتلوا جميعا ، بل في بعض المذكورين من أسر ، ومن فر ، ومن قتل قبل كربلاء ، فلاحظ مقدمتنا للطبعة الثانية لهذا الكتاب ، الذي نقوم بإعداده بعون الله . ( 3 ) نشر هذا الكتاب ، بتحقيقنا ، في مجلة ( تراثنا ) الفصلية التي تصدرها مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث في قم سنة ( 1406 ) وقد ذكرنا سنده وترجمة مؤلفه بتفصيل واف . والكتاب مذكور في الأمالي الخميسية للمرشد بالله ( 1 : 170 - 173 ) والحدائق الوردية للمحلي ج 1 ص 120 . ‹ هامش ص 43 › ( 1 ) تسمية من قتل مع الحسين عليه السلام ، مجلة ( تراثنا ) العدد الثاني ( ص 150 ) . ( 2 ) لاحظ مادة ( رثث ) من كتب اللغة ، وقد صرحوا بأن الكلمة بالمجهول ، انظر : المغرب للمطرزي ( 1 : 184 ) والقاموس ( 1 : 167 ) ولسان العرب ( 2 : 457 ) . ( 3 ) مناقب آل أبي طالب - طبع دار الأضواء ( 4 / 118 ) . ( 4 ) مناقب آل أبي طالب ( 4 / 85 ) . دار الأضواء . ‹ هامش ص 44 › ( 1 ) الإرشاد للمفيد ( ص 231 ) شرح الأخبار ( 3 : 250 ) وسير أعلام النبلاء ( 4 : 486 ) . ( 2 ) نقله ابن شهرآشوب عن كتاب ( المقتل ) في مناقب آل أبي طالب ( 3 / 284 ) وفي ط دار الأضواء ( 4 / 155 ) ونقله في العوالم ( ص 32 ) . ( 3 ) مناقب ابن شهرآشوب ( دار الأضواء ) ( 4 / 122 ) . ‹ هامش ص 45 › ( 1 ) الإرشاد للمفيد ( ص 231 ) . ‹ هامش ص 47 › ( 1 ) جهاد الشيعة ، لليثي ( ص 27 )
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 48 - 54
هالته المصارع الدامية في كربلاء ، أو فجعته التضحيات الجسيمة التي قدمت أمامه ، ولا يصدر مثل تلك البطولات ممن فضل السلامة !
نعم ، لا يمكن أن يصدر مثل ذلك إلا من صاحب قلب جسور ، صلب يتحمل كل الآلام ، ويتصدى لتحقيق كل الآمال ، التي من أجلها حضر في ميدان كربلاء من حضر ، وناضل من ناضل ، واستشهد من استشهد ، والآن يقف - ليؤدي دورا آخر - من بقي حيا من أصحاب كربلاء ، ولو في الأسر ! إن الدور الذي أداه الإمام السجاد عليه السلام ، بلسانه الذي أفصح عن الحق ببلاغة معجزة ، فأتم الحجة على الجميع ، بكل وضوح ، وكشف عن تزوير الحكام الظالمين ، بكل جلاء ، وأزاح الستار عن فسادهم وجورهم وانحرافهم عن الإسلام . إن هذا الدور كان أنفذ على نظام الحكم الفاسد ، من أثر سيف واحد ، يجرده الإمام في وجه الظلمة ، إذ لم يجد معينا في تلك الظروف الصعبة ! . لكنه كان الشاهد الوحيد ، الذي حضر معركة كربلاء بجميع مشاهدها ، من بدايتها ، بمقدماتها وأحداثها وملابساتها وما تعقبها ، وهو المصدق الأمين في كل ما يرويه ويحكيه عنها . فكان وجوده استمرارا عينيا لها ، وناطقا رسميا عنها . مع أن وجوده ، وهو أفضل مستودع جامع للعلوم الإلهية بكل فروع : العقيدة ، والشريعة ، والأخلاق ، والعرفان ، بل المثال الكامل للإسلام في تصرفاته وسيرته وسنته ، والناطق عن القرآن المفسر الحي لآياته ، إن وجوده - حيا - كان أنفع للإسلام وأنجع للمسلمين في ذلك الفراغ الهائل ، والجفاف القاتل ، في المجتمع الإسلامي . كان وجوده أقض لمضاجع أعداء الإسلام من ألف سيف وسيف ، لأن الإسلام إنما ‹ صفحة 49 › يحافظ عليه ببقاء أفكاره وقيمه ، والأعداء إنما يستهدفون تلك الأفكار والقيم في محاولاتهم ضده ، وإذا كان شخص مثل الإمام موجودا في الساحة ، فإنه - لا ريب - أعظم سد أمام محاولات الأعداء . وكذلك الأعداء إنما يبادون بضرب أهدافهم ، واجتثاب بدعهم وفضح أحابيلهم ، والكشف عن دجلهم ، ورفع الأغطية عن نياتهم الشريرة تجاه هذا الدين وأهله ، والإفصاح عن مخالفة سيرتهم للحق والعدل .
وعلى يد الإمام السجاد عليه السلام يمكن أن يتم ذلك بأوثق شكل وأتم صورة ، وأعمق تأثير . ثم ، أليس الجهاد بالكلمة واحدا من أشكال الجهاد ، وإن كان أضعفها ؟
بل ، إذا انحصر الأمر به ، فهو الجهاد كله بل أفضله ، في مثل مواقف الإمام السجاد عليه السلام ،
كما ورد في الحديث الشريف ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ) ( 1 ) .
ولنصغ إلى الإمام السجاد عليه السلام في بعض تلك المواقف :

فمن كلام له عليه السلام كان يعلنه وهو في أسر بني أمية : ( أيها الناس ! إن كل صمت ليس فيه فكر فهو عي ، وكل كلام ليس فيه ذكر فهو هباء . ألا ، وإن الله تعالى أكرم أقواما بآبائهم ، فحفظ الأبناء بالآباء ،
لقوله تعالى : * ( وكان أبوهما صالحا ) * [ سورة الكهف الآية ( 82 ) ]
فأكرمهما . ونحن - والله - عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأكرمونا لأجل رسول الله ، لأن جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في منبره :
( احفظوني في عترتي وأهل بيتي ، فمن حفظني حفظه الله ، ومن آذاني فعليه لعنة الله ، ألا ، فلعنة الله على من آذاني فيهم ) حتى قالها ثلاث مرات .
ونحن - والله - أهل بيت أذهب الله عنا الرجس والفواحش ما ظهر منها وما بطن . . . ) ( 2 ) . ‹ صفحة 50 ›
وبهذه الصراحة ، والقوة ، والبلاغة ، عرف الإمام السجاد عليه السلام للمتفرجين - ولمن وراءهم - هذا الركب المأسور ، الذي نبزوه بأنه ركب الخوارج ! ففضح الدعايات ، وأعلن بذلك أنه ركب يتألف من أهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .

وأفصح بتلاوة الآيات والأحاديث ، أنه ركب يحمل القرآن والسنة ، ليعرف المخدوعون أن هذا الركب له ارتباط وثيق بالإسلام من خلال مصدريه الكتاب والسنة .
وهو - من لسان هذين المصدرين - يصب اللعنة والنقمة على من آذى هذا الركب ، من دون أن يمكن الأعداء من التعرض له ، لأنه عليه السلام إنما يروي اللعنة الصادرة من الرسول وعلى لسانه ! كان هذا الموقف ، حين أخذ الناس الوجوم ، من عظم ما جرى في وقعة كربلاء ، وما حل بأهل البيت عليه السلام من التقتيل والأسر ، وذهلوا حينما رأوا الحسين سبط الرسول وأهله وأصحابه مجزرين ! ويرون اليوم ابنه ، وعيالاته أسرى ، يساقون في العواصم الإسلامية . والأسر - في قاموس البشر - يوحي معاني الذل والهوان ، والضعف والانكسار ! هذا ، والناس يفتخرون بالانتماء إلى دين الرسول وسنته . والأنكى من ذلك أن الجرائم وقعت ولما يمض على وفاة الرسول - جد هؤلاء الأسرى - نصف قرن من الزمن ! ! وموقفه الآخر في مجلس يزيد ،
فقد أوضح فيه عن هويته الشخصية ، فلم يدع لجاهل عذرا في الجلوس المريب ، وذلك في المجلس الذي أقامه يزيد ، للاحتفال بنشوة الانتصار ولا بد أنه جمع فيه الرؤوس والأعيان ،
فانبرى الإمام السجاد عليه السلام ، في خطبته البليغة الرائعة ، التي لم يزل يقول فيها : ( أنا . . . أنا . . . ) معرفا بنفسه ، وذاكرا أمجاد أسلافه ( حتى ضج المجلس بالبكاء والنحيب ) حسب تعبير النص ( 1 ) الذي سنثبته كاملا : ‹ صفحة 51 ›



الشيخ حسن العبد الله 12-24-2010 05:45 PM

خطبة الإمام في مجلس يزيد :
قال الخوارزمي : ( وروي ) أن يزيد أمر بمنبر خطيب ، ليذكر للناس مساوئ الحسين وأبيه علي عليهما السلام . فصعد الخطيب المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وأكثر الوقيعة في علي والحسين ، وأطنب في تقريظ معاوية ويزيد .
فصاح به علي بن الحسين : ويلك أيها الخاطب ! اشتريت رضا المخلوق بسخط الخالق ؟ فتبوأ مقعدك من النار .

ثم قال : يا يزيد ، إئذن لي حتى أصعد هذه الأعواد ، فأتكلم بكلمات فيهن لله رضا ، ولهؤلاء الجالسين أجر وثواب . فأبى يزيد ،
فقال الناس : يا أمير المؤمنين ، ائذن له ليصعد ، فعلنا نسمع منه شيئا .
فقال لهم : إن صعد المنبر هذا لم ينزل إلا بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان ،
فقالوا : وما قدر ما يحسن هذا ؟
فقال : إنه من أهل بيت قد زقوا العلم زقا .
ولم يزالوا به حتى أذن له بالصعود .
فصعد المنبر : فحمد الله وأثنى عليه ،
ثم خطب خطبة أبكى منها العيون ، وأوجل منها القلوب ،
فقال فيها : ( أيها الناس ، أعطينا ستا ، وفضلنا بسبع : أعطينا العلم ، والحلم ، والسماحة ، والفصاحة ، والشجاعة ، والمحبة في قلوب المؤمنين . وفضلنا بأن منا النبي المختار محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ، ومنا الصديق ، ومنا الطيار ، ومنا أسد الله وأسد الرسول ، ومنا سيدة نساء العالمين فاطمة البتول ، ومنا سبطا هذه الأمة ، وسيدا شباب أهل الجنة .
فمن عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي :
أنا ابن مكة ومنى . أنا ابن زمزم والصفا ‹ صفحة 52 › أنا ابن من حمل الزكاة ( 1 ) بأطراف الردا .
أنا ابن خير من ائتزر وارتدى .
أنا ابن خير من انتعل واحتفى . أنا ابن خير من طاف وسعى . أنا ابن خير من حج ولبى . أنا ابن من حمل على البراق في الهوا .
أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، فسبحان من أسرى . أنا ابن من بلغ به جبرائيل إلى سدرة المنتهى .
أنا ابن من دنى فتدلى فكان من ربه قاب قوسين أو أدنى . أنا ابن من صلى بملائكة السما . أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى . أنا ابن محمد المصطفى . أنا ابن علي المرتضى . أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا : لا إله إلا الله . أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله بسيفين ، وطعن برمحين ، وهاجر الهجرتين ، وبايع البيعتين ، وصلى القبلتين ، وقاتل ببدر وحنين ، ولم يكفر بالله طرفة عين . أنا ابن صالح المؤمنين ، ووارث النبيين ، وقامع الملحدين ، ويعسوب المسلمين ، ونور المجاهدين ، وزين العابدين ، وتاج البكائين ، وأصبر الصابرين ، وأفضل القائمين من آل ياسين ، ورسول رب العالمين . أنا ابن المؤيد بجبرائيل ، المنصور بميكائيل . أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين ، وقاتل الناكثين والقاسطين ‹ صفحة 53 › والمارقين ، والمجاهد أعداءه الناصبين ، وأفخر من مشى من قريش أجمعين ، وأول من أجاب استجاب لله ، من المؤمنين ، وأقدم السابقين ، وقاصم المعتدين ، ومبير المشركين ، وسهم من مرامي الله على المنافقين ، ولسان حكمة العابدين ، ناصر دين الله ، وولي أمر الله ، وبستان حكمة الله ، وعيبة علم الله ، سمح سخي ، بهلول زكي أبطحي رضي مرضي ، مقدام همام ، صابر صوام ، مهذب قوام شجاع قمقام ، قاطع الأصلاب ، ومفرق الأحزاب ، أربطهم جنانا ، وأطلقهم عنانا ، وأجرأهم لسانا ، وأمضاهم عزيمة ، وأشدهم شكيمة ، أسد باسل ، وغيث هاطل ، يطحنهم في الحروب - إذا ازدلفت الأسنة ، وقربت الأعنة - طحن الرحى ، ويذروهم ذرو الريح الهشيم ، ليث الحجاز ، صاحب الإعجاز ، وكبش العراق ، الإمام بالنص والاستحقاق مكي مدني ، أبطحي تهامي ، خيفي عقبي ، بدري أحدي ، شجري مهاجري ، من العرب سيدها ، ومن الوغى ليثها ، وارث المشعرين ، وأبو السبطين ، الحسن والحسين ، مظهر العجائب ، ومفرق الكتائب ، والشهاب الثاقب ، والنور العاقب ، أسد الله الغالب ، مطلوب كل طالب غالب كل غالب ، ذاك جدي علي بن أبي طالب . أنا ابن فاطمة الزهرا . أنا ابن سيدة النسا . أنا ابن الطهر البتول . أنا ابن بضعة الرسول . ( أنا ابن الحسين القتيل بكربلاء . أنا ابن المرمل بالدما . أنا ابن من بكى عليه الجن في الظلما . أنا ابن من ناحت عليه الطيور في الهوا . ) ( 1 ) قال : ولم يزل يقول : ( أنا أنا ) حتى ضج الناس بالبكاء والنحيب ،
وخشي يزيد أن ‹ صفحة 54 › تكون فتنة ،
فأمر المؤذن أن يؤذن ، فقطع عليه الكلام وسكت .
فلما قال المؤذن ( الله أكبر ! ) قال علي بن الحسين : كبرت كبيرا لا يقاس ، ولا يدرك بالحواس ، لا شي أكبر من الله .
فلما قال : ( أشهد أن لا إله إلا الله ! ) قال علي : شهد بها شعري وبشري ، ولحمي ودمي ، ومخي وعظمي .
فلما قال : ( شهد أن محمدا رسول الله ! ) التفت علي من أعلى المنبر إلى يزيد

وقال : يا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 49 › ( 1 ) الروض النضير ( 5 / 13 ) وانظر الكنى للدولابي ( 1 / 78 ) . ( 2 ) بلاغة علي بن الحسين عليه السلام ( ص 95 ) عن المنتخب للطريحي . ‹ هامش ص 50 › ( 1 ) مقتل الحسين عليه السلام ، للخوارزمي ( 2 / 71 ) . ‹ هامش ص 52 › ( 1 ) في نقل ( كامل البهائي ) : ( من حمل الركن ) وفسر بالحجر الأسود الذي محله الركن ، ولذلك ذكر في سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة . ‹ هامش ص 53 › ( 1 ) ما بين القوسين عن ( الكامل للبهائي ) . ‹ هامش ص 54 › ( 1 ) مقتل الحسين ( 2 / 69 - 71 ) ونقل عن كتاب ( كامل البهائي ) بنص متقارب نقله الحائري في بلاغة علي بن الحسين عليه السلام ( ص 106 - 109 ) ونقل بعده نصا آخر للخطبة عن أبي مخنف فليلاحظ .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 54 - 60
يزيد ، محمد هذا جدي أم جدك ؟
فإن زعمت أنه جدك فقد كذبت . وإن قلت إنه جدي ،
فلم قتلت عترته ؟ ( 1 ) .
فأدى كلام الإمام عليه السلام إلى أن تتبخر كل الدعايات المضللة التي روجتها السياسة الأموية ، والتي تركزت على : أن الأسرى هم من الخوارج ! فبدل نشوة الانتصار إلى حشرجة الموتى في حلوق المحتفلين ! وفي التزام الإمام السجاد عليه السلام بذكر هويته الشخصية فقط في هذه الخطبة ، حكمة وتدبير سياسي واع ، إذ لم يكن له في مثل هذا المكان والزمان ، أن يتطرق إلى شئ من القضايا الهامة ، وإلا كان يمنع من الكلام والنطق ، وأما الإعلان عن اسمه فهي قضية شخصية ، وهو من أبسط الحقوق التي تمنح للفرد وإن كان في حالة الأسر .
لكن كلام الإمام لم يكن في الحقيقة إلا مليئا بالتذكير والإيماء ، بل الكناية التي هي أبلغ من التصريح ، بنسبه الشريف ، واتصاله بالإسلام ، وبرسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم .

وقد ذكر الإمام عليه السلام بكل المواقع الجغرافية ، والمواقف الحاسمة والذكريات العظيمة في الإسلام ، وربط نفسه بكل ذلك ، فسرد - وبلغة شخصية - حوادث تاريخ الإسلام ، معبرا بذلك عن أنه يحمل هموم ذلك التاريخ كله على عاتقه ، وأنه حامل هذا العب ء ، بكل ما فيه من قدسية ،
ومع هذا فهو يقف ( أسيرا ) أمام أهل المجلس ! وقد فهم الناس مغزى هذا الكلام العميق ، فلذلك ضجوا بالبكاء ! فإن الحكام ‹ صفحة 55 › الأمويين إنما حصلوا على مواقع السلطة من خلال ربط أنفسهم بالإسلام ، فكسبوا لأنفسهم قدسية الخلافة ! وكان لجهل الناس الأثر الكبير في وصول الأمر إلى هذه الحالة ، أن يروا ابن الإسلام أسيرا أمامهم ! ثم إن جهل أهل الشام بأهل البيت ، مضافا إلى حقد الحكام على أهل البيت عامة ، وعلى الذين كانوا مع الحسين عليه السلام في كربلاء خاصة ، كان يدعو إلى الاحتياط ، والحذر من أن ينقض يزيد على الأسرى ! في ما لو أحس بخطرهم ، فيبيدهم ! فكان ما قام به الإمام من تأطير خطبته بالإطار الشخصي مانعا من إثارة غضبه وحقده ، لكن لم يفت الإمام اقتناص الفرصة السانحة لكي يبث من خلال التعريف ، بشخصه وهويته ، التنويه بشخصيته وبقضيته وبهمومه ، ولو بالكناية التي كانت - حقا - أبلغ من التصريح .
فلذلك لم يتعرض الإمام عليه السلام لذكر مساوئ الأمويين ، ولم يذكر شيئا من فضائحهم ، بالرغم من ( توقع يزيد ) نفسه لذلك .
وبذلك نجا من شر يزيد ، وبقي ليداوم اتباع الهدف الذي من أجله قتل الشهداء بالأمس ، وأصبح - هو - يقود مسيرة الأحياء ، اليوم ، وغدا . . .
وموقف آخر : في وسط ذلك الجو الخانق ، وفي عاصمة الحاكم المنتصر ، وفي حالة الأسر ، يرفع الإمام صوته ، ليسمع الآذان التي أصمها الضوضاء والصخب ،
في ما رواه المنهال بن عمرو ، قال : دخلت على علي بن الحسين ، فقلت : كيف أصبحت ، أصلحك الله ؟ !
فقال : ما كنت أرى شيخا من أهل المصر - مثلك - لا يدري : كيف أصبحنا ! ؟
قال : فأما إذا لم تدر - أو تعلم –
فأنا أخبرك : أصبحنا - في قومنا - بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون ، إذ كانوا * ( يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم ) * وأصبحنا : شيخنا وسيدنا يتقرب إلى عدونا بشتمه ، وبسبه ، على المنابر . ‹ صفحة 56 › وأصبحت قريش تعد ( 1 ) : أن لها الفضل على العرب ، لأن محمدا منها ، لا يعد لها فضل إلا به ، وأصبحت العرب مقرة ( 2 ) لهم بذلك . وأصبحت العرب تعد ( 3 ) أن لها الفضل على العجم ، لأن محمدا منها ، لا يعد لها فضل إلا به ، وأصبحت العجم مقرة ( 4 ) فإن كانت العرب صدقت أن لها الفضل على العجم ، وصدقت قريش أن لها الفضل على العرب لأن محمدا منها :
إن لنا - أهل البيت - الفضل على قريش ، لأن محمدا منا . فأضحوا يأخذون بحقنا ، ولا يعرفون لنا حقا . فهكذا أصبحنا ،
إن لم يعلم : كيف أصبحنا ؟ ! قال المنهال : فظننت أنه أراد أن يسمع من في البيت ! ( 5 )
ويصرح في موقف مماثل يسأل فيه عن الركب الذي هو فيه ،
فيقول : ( إنا من أهل البيت ، الذين افترض الله مودتهم على كل مسلم ،
فقال تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم : *
( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا ) * [ سورة الشورى 42 الآية ( 23 ) ] فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت ( 6 ) .

إلى غير ذلك من المواقف التي كان لها أثر حاسم في تغيير سياسة يزيد تجاه هذا الركب المأسور ، حتى أرجعه إلى المدينة ! إن هذه المواقف لم تكن تصدر من قلب ملئ رعبا ، أو شخص يفضل السلامة ، أو يميل إلى الهدوء والراحة ، بله المسالمة مع العدو أو الركون إلى الظالمين ‹ صفحة 57 › إنما صاحب هذه المواقف ذو روح متطلعة وثابة هادفة ، إذا لم يتح له - بعد كربلاء - أن يأخذ بقائمة السيف ، فسنان المنطق لا يزال في قدرته ، يهتك به ظلام التعتيم الإعلامي المضلل ! وقد اتبع الإمام السجاد عليه السلام هذه الخطة بحكمة وتدبير عن علم بالأمر ، وعمد له ، وكشف عن أنه انتهجه سياسة مدبرة مدروسة .


فلما سئل عن : ( الكلام ، والسكوت ) أيهما أفضل ؟

لم يدل بما يعتبره الحكماء من : أن الكلام إذا كان من فضة فالسكوت من ذهب ، وإنما قال : ( لكل واحد منهما آفات ، وإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت ) .

ولما سئل عن سبب ذلك مع مخالفته لاعتبار الحكماء المستقر في أذهان الناس من فضل السكوت ؟
قال : ( لأن الله - عز وجل - ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت ، وإنما بعثهم بالكلام . ولا استحقت الجنة بالسكوت . ولا استوجبت ولاية الله بالسكوت .
ولا توقيت النار بالسكوت . ولا يجنب سخط الله بالسكوت .
إنما كله بالكلام !
وما كنت لأعدل القمر بالشمس ! إنك تصف فضل السكوت بالكلام ، ولست تصف فضل الكلام بالسكوت ! ( 1 )


وهكذا طبق الإمام عليه السلام هذه الحكمة البالغة ، وأدى رسالته الإلهية من خلال خطبه وكلماته ومواعظه وأحاديثه ، في جميع المواقف العظيمة التي وقفها ، وهو في الأسر . وإذا كان الظالمون يعتدون على المصلحين والأحرار بالقتل والسجن ، فإنما ذلك ليخنقوا كل صوت في الحناجر ، ولئلا يسمع الناس حديثهم وكلامهم ( 2 ) . ‹ صفحة 58 ›
وإذا ذبح الحسين عليه السلام وقتل في كربلاء ، فإن نداءاته ظلت تدوي من حنجرة الإمام السجاد عليه السلام في مسيرة الأسرى ، وفي قلب مجالس الحكام . وليس من الإنصاف ، في القاموس السياسي ، أن يوصف من يؤدي هذا الدور ، بالانعزال عن السياسة ، أو الابتعاد عن الحركة والنضال !
بل ، إذا كانت حركة الإمام الحسين عليه السلام سياسية ، كما هي كذلك بلا ريب فكما قال القرشي : إن الإمام زين العابدين عليه السلام من أقوى العوامل في تخليد الثورة الحسينية ، وتفاعلها مع عواطف المجتمع وأحاسيسه ،
وذلك بمواقفه الرائعة التي لم يعرف لها التاريخ مثيلا في دنيا الشجاعة والبطولات ! أما خطابه في بلاط يزيد فإنه من أروع الوثائق السياسية في الإسلام ( 1 ) .

وبرز الإمام زين العابدين عليه السلام على مسرح الحياة الإسلامية كألمع سياسي إسلامي عرفه التاريخ ، فقد استطاع بمهارة فائقة - وهو في قيد المرض والأسر - أن ينشر أهداف الثورة العظمى التي فجرها أبوه الإمام الحسين القائد الملهم للمسيرة الإسلامية الظافرة ، فأبرز قيمها الأصلية بأسلوب مشرق كان في منتهى التقنين ، والأصالة ، والإبداع ( 2 ) . ‹ صفحة 59 ›


الشيخ حسن العبد الله 12-24-2010 09:00 PM

ثالثا :








في المدينة رجع الإمام السجاد إلى المدينة
: ليرى المدينة واجمة ، موحشة من أهله وذويه ، رجالات أهل البيت عليهم السلام ، والناس كذلك واجمون ، بعد أن رأوا ركب أهل البيت يرجع ليس فيهم إلا علي بن الحسين عليه السلام ، وليس معه إلا أطفال ونساء ! !
أما الرجال فقد ذبحوا على يد العصبة الأموية ! ؟
وإذا لم يتورع آل أمية من إراقة دم الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، هكذا ، وفي وضح النهار ، وهو من هو ! فمن سوف يأمن بغيهم وسطوتهم ! ؟

إن الإمام السجاد عليه السلام ، وهو الوارث الشرعي لدماء كل المقتولين ، الشهداء الذين ذبحوا في كربلاء ، وهو الشاهد الوحيد على كل ما جرى في تلك الواقعة الرهيبة ، لا بد أن عين الرقابة تلاحقه ، وتتربص به ، وتنظر إلى تصرفاته بريبة واتهام .
والناس - على عادتهم في الابتعاد والتخوف من مواضع التهمة ، ومواقع الخطر - قد تركوا علي بن الحسين ، وابتعدوا عنه ، حتى من كان يعلن الحب لأهل البيت عليهم السلام قبل كربلاء ، لم يكد يفصح عن وده بعد كربلاء . وقد عبر الإمام السجاد عليه السلام عن ذلك بقوله : ( ما بمكة والمدينة عشرون رجلا يحبنا ) ( 1 ) وإذا كان عدد الملتزمين بالولاء الصادق لأهل البيت ، في عاصمة الإسلام قليلا إلى هذا الحد ،
فكيف بالبلدان القاصية عن مركز وجود أهل البيت عليهم السلام ؟ !
وقد رجع الإمام السجاد عليه السلام حاملا معه أعباءا ثقالا :
فأعباء كربلاء ، بمآسيها ، وذكرياتها ، وأتعابها ، وجروحها ، والأثقل من كل ذلك ( أهدافها ) ونتائجها ، فقد هبط المدينة وهو الوحيد الباقي من رجال تلك المعركة ، ‹ صفحة 60 › فعليه أداء رسالتها العظيمة . وأعباء العائلة المهضومة ، المكثورة ، ما بين ثكالى وأرامل وأيتام ، ودموع لا بد أن يكفكفها ، وعواطف مخدوشة ، وقلوب صغيرة مروعة ، وعيون موحشة ، وجروح وأمراض وآلام ، تحتاج إلى مداراة ومداواة والتيام !
ولا بد أن يسترجع القوى ! وأعباء الإمامة ، تلك المسؤولية الإلهية ، والتاريخية الملقاة على عاتقه ، والتي لا بد أن ينهض بها ، فيلملم كوادرها ويردم الصدمات العنيفة التي هز كيانها ، ويرأب الصدع الذي أصاب بناء نظام الإمامة الشامخ ، الذي يمثل الخط الصحيح للإسلام .
ولقد حمل الإمام السجاد عليه السلام ، في وحدته ، كل هذه الأعباء ، وبفضل حكمته وتدبيره خرج من عهدتها بأفضل الأشكال . ففي السنين الأولى : وقبل كل هذه المهمات الهائلة الثقال ، وبعدها : كانت ملاحقة الدولة ، أهم ما كان على الإمام السجاد عليه السلام أن يوقفها عند حد ، حتى يتمكن من أداء واجب تلك الأعباء

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 54 › ( 1 ) مقتل الحسين ( 2 / 69 - 71 ) ونقل عن كتاب ( كامل البهائي ) بنص متقارب نقله الحائري في بلاغة علي بن الحسين عليه السلام ( ص 106 - 109 ) ونقل بعده نصا آخر للخطبة عن أبي مخنف فليلاحظ . ‹ هامش ص 56 › ( 1 ) كذا الصواب وكان في المختصر : ( بعد ) . ( 2 ) كذا الصواب وكان في المختصر : ( معيرة ) . ( 3 ) كذا الصواب وكان في المختصر : ( بعد ) . ( 4 ) كذا الصواب وكان في المختصر : ( معيرة ) . ( 5 ) تاريخ دمشق ( الحديث 120 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 245 ) ورواه الحافظ محمد بن سليمان في مناقب أمير المؤمنين عليه السلام ( ج 2 ص 108 ) رقم ( 598 ) ولاحظ طبقات ابن سعد ( 5 / 219 ) . ورواه السيد الموفق بالله في الاعتبار وسلوة العارفين ( ص 186 ) . ( 6 ) المستدرك على الصحيحين ، للحاكم ( 3 : 172 ) . ‹ هامش ص 57 › ( 1 ) الاحتجاج للطبرسي ( ص 315 ) . ( 2 ) لاحظ أن الحجاج ختم على مجموعة من الصحابة كي لا يسمعهم الناس ، في أسد الغابة ( 2 : 471 ) ترجمة سهل الساعدي . ‹ هامش ص 58 › ( 1 ) حياة الإمام زين العابدين ، للقرشي ( 1 : 8 ) . ( 2 ) حياة الإمام زين العابدين ، للقرشي ( 1 : 7 ) . ‹ هامش ص 59 › ( 1 ) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ( 4 : 140 ) . ولاحظ الغارات للثقفي ( ص 573 ) وبحار الأنوار ( 46 / 143 ) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 60 - 66
ء الصعبة بشكل صحيح ومطلوب .
ولا بد أن أصابع الاتهام كانت موجهة إليه ما دام موجودا في المدينة ، أو أي بلد إسلامي آخر ، تلاحق حركاته وسكناته ، وتحصي أنفاسه وكلماته . الإجراء الفريد :
فلذلك اتخذ إجراءا فريدا في حياة الأئمة ، وبأسلوب غريب جدا ، لمواجهة الموقف ، ولإبعاد نفسه عن وجهة تلك الاتهامات والملاحقات التي لا يمكن صرفها هي ولا تغيير وجهتها .


فأبعد بذلك الإجراء الأخطار الموجهة إليه من الملاحقات ، وبدأ بعيدا عنها بالاستعداد لما يتوجبه حمل تلك الأعباء ،
ويتأهب للقيام بدوره ، كوارث لكربلاء ، وكمعيل كفيل لعوائل الشهداء ، وكإمام يقود الأمة ويحافظ على تعاليم السماء .


كان ذلك الإجراء الفريد أنه اتخذ بيتا من ( شعر ) في البادية ، خارج المدينة ! ‹ صفحة 61 ›
قال ابن أبي قرة في ( مزاره ) بسنده عن أبي جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين عليه السلام ، قال : كان أبي علي بن الحسين عليه السلام ، قد اتخذ منزله - من بعد مقتل أبيه الحسين بن علي عليه السلام - بيتا من شعر ،
وأقام بالبادية ، فلبث بها عدة سنين ، كراهية لمخالطة الناس ( 1 ) وملاقاتهم . وكان يصير من البادية بمقامه إلى العراق زائرا لأبيه وجده عليهما السلام ، ولا يشعر بذلك من فعله ( 2 ) .


إنه تصرف غريب في طول تاريخ الإمامة ، لم نجد له مثيلا ، لكنه - كما تكشف عنه الأحداث المتتالية - عمل عظيم ينم عن حنكة سياسية ، وتدبير دقيق للإمام عليه السلام .
فإذا كان الإمام عليه السلام يعيش خارج المدينة ، وكان ينزل البادية : فإن الدولة لا تتمكن من اتهامه بشئ يحدث في المدينة ، ويكون من العبث ملاحقته وملاحظته ، في محل مكشوف مثل البادية ! وأما هو عليه السلام : فخير له أن يتخذ منتجعا مؤقتا بعيدا عن الناس ، حتى تهدأ الأوضاع وتستقر ، وتعود المياه إلى مجاريها . وبعيدا عن الناس ، للاستجمام ، ولاستجماع قواه ، كي ينتعش مما أبلاه في سفره ذلك من النصب والتعب ، ليتمكن من مداومة مسيره - بعد ذلك - بقوة وجد . وهو عليه السلام بحاجة بعد ذلك العناء والضنى إلى راحة جسدية ، وهدوء بال وخاطر ، حتى يبل من مرضه أو يداوي جراحاته .
ثم ، إن المدينة التي دخلها الإمام السجاد عليه السلام وهو غلام ابن ( 23 ) سنة - أو نحو ذلك - لم تكن لتعرف للإمام مكانته كإمام ،

وهو - بعد - لم يعاشرهم ، ولم يداخلهم ، وما تداولوا حديثه ، ولم تظهر لهم خصائصه ، كي ينطلقوا معه كقائم بالإمامة !
ولعدم وجود العدد اللازم من الأعوان والأنصار ، بالقدر الكافي لإعداد حركة ‹ صفحة 62 › مستقلة يعلنها الإمام ، وحفاظا على العدد الضئيل الباقي على ولائه للإمام .
فقد بنى الإمام زين العابدين عليه السلام سياسته ، في ابتداء إمامته على أساس الابتعاد عن الناس ، ودعوتهم إلى الابتعاد عنه عليه السلام .
وقد أعلن الإمام عن هذه السياسة ، في أول لقاء له مع مجموعة من شيعته ومواليه في الكوفة ، عندما عرضوا عليه ولاءهم ،
وقالوا له بأجمعهم : نحن كلنا يا بن رسول الله ، سامعون ، مطيعون ، حافظون لذمامك ، غير زاهدين فيك ولا راغبين عنك ، فمرنا بأمرك ، رحمك الله ، فإنا حرب لحربك ، وسلم لسلمك ، لنأخذن ترتك وترتنا ممن ظلمك وظلمنا .

فقال عليه السلام : هيهات . . . ومسألتي أن لا تكونوا لنا ولا علينا ( 1 ) . إن الإمام عليه السلام أخذ عليهم ، سائلا ، أن يأخذوا في تلك الفترة جانب الحياد تجاه أهل البيت عليهم السلام ، لا لهم ، ولا عليهم . إذ ، لو رأت السلطة أدنى تجمع حول الإمام عليه السلام ، لاتخذت ذلك مبررا لها أن تستأصل وجوده ومن معه ،
فإن من الهين عليها قتل علي بن الحسين وهو ضعيف ، بعد أن قتلت الحسين عليه السلام وهو أقوى موقعا في الأمة ! كان مغزى هذا التدبير السياسي المؤقت :

أن لا يبقى الإمام عليه السلام داخل المدينة ، حتى لا تلاحقه أوهام الدولة وتخمينات رجالها وحتى يبتعد عن ظنونهم السيئة ، بل خرج إلى فضاء البادية المفتوح ، وخارج البلد ، يسكن في بيت من ( شعر ) ليرفع عن نفسه سهام الريب ، ويدفع عن ساحته اهتمام رجال الدولة ، كوارث للشهداء .

ولقد طالت هذه الحالة ( عدة سنين ) حسب النص ، ولعلها بدأت من سنة ( 61 ) عندما رجع أهل البيت إلى المدينة ، وحتى نهاية سنة ( 63 ) عندما انتهت مجزرة الحرة الرهيبة . ‹ صفحة 63 ›

وأما بعد هذه الفترة ، فلم يعرف عن هذا البيت من الشعر خبر في تاريخ الإمام عليه السلام ، ولا أثر ! وأبرز ما أثمرته هذه الظاهرة الغريبة ، أن القائد الأموي السفاك مسلم بن عقبة ، في هجومه الوحشي الكاسح على المدينة وأهلها ، لم يمس الإمام بسوء ، وعده ( خيرا لا شر فيه ) .

وواضح ، أن المراد من ( الخير والشر ) في منطق هذا الأموي السفاح ، ما هو ؟ مع أن الإمام كان مستهدفا بالذات في ذلك الهجوم ، كما سنوضحه في ما بعد ! ولقد استنفد الإمام السجاد عليه السلام جل أغراضه وأهدافه من هذا الإجراء الفريد ، فرجع إلى المدينة ، وقد انقلبت ظنون رجال الحكم السيئة ، إلى حالة مألوفة ، وأصبح الإمام في نظرهم مواطنا ، يمكنه أن يسكن المدينة ، من دون أن تنصب له الدوائر ، ولا أن تجعل عليه العيون . بل ، انقلب البغض الدفين ، الذي كان يكنه الأمويون تجاه بني هاشم ، وركزه معاوية في أهل بيت الرسول ، وصبه على أمير المؤمنين علي وأولاده ، وجسده يزيد في الفاجعة المروعة بقتل شيخ العترة وسيدها الحسين بن علي عليه السلام ، وقتل خيرة رجالات أهل بيته ، وأصحابه ، في مجزرة كربلاء .
انقلب كل ذلك - في نهاية المطاف - بفضل سياسة الإمام زين العابدين عليه السلام ، إلى أن يكون علي بن الحسين أحب الناس إلى حكام بني أمية ( 1 ) . وبهذا يمكن أن نفسر النص الوارد في إعلام إمامة علي بن الحسين عليه السلام المعروف بحديث اللوح الذي رواه جابر بن عبد الله الأنصاري
حيث جاء فيه : ( أطرق ، واصمت ، والزم منزلك ، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) ( 2 ) .
فلا بد أن تحدد فترة ذلك بأول عهد إمامة الإمام السجاد عليه السلام حين كان يواجه . ‹ صفحة 64 › تلك الأخطار والتهديدات . و ( الإطراق ) و ( الصمت ) معبران عن التزام السكون ، والهدوء ، والتخطيط للمستقبل ، والابتعاد عن لقاء الناس .
وهذا هو الذي عبر عنه إسماعيل بن علي أبو سهل النوبختي بقوله : وقتل الحسين عليه السلام وخلف علي بن الحسين عليه السلام متقارب السن - كانت سنه أقل من عشرين سنة ! –
ثم انقبض عن الناس ، فلم يلق أحدا ، ولا كان يلقاه إلا خواص أصحابه ، وكان في نهاية العبادة ، ولم يخرج عنه من العلم إلا يسير ، لصعوبة الزمان وجور بني أمية ( 1 ) فهو شرح عيني لحالة هذه الفترة بالذات .
وإلا ، فإن الفترة التالية من حياة الإمام السجاد عليه السلام نراها مليئة بكل أغراض
الكلام
والخطب
والأدعية
والمواعظ .
فأين الصمت ! ؟
ونجد في حياته
الأسفار المكررة إلى الحج ،
والنشاط العملي الجاد
في الإنفاق ،
والإعتاق ،
والحضور في المسجد النبوي ،
والخطبة كل جمعة ،
والمراسلات
والمساجلات

والاحتجاجات .
فأين الإطراق ! ؟
ولا يمكن لأحد أن يعبر عن العلم الذي خرج عن الإمام عليه السلام بأنه ( يسير ) وهو يجد أمامه :
الصحيفة السجادية ،
ورسالة الحقوق ،
ومناسك الحج ،
مضافا إلى الخطب والكلمات الرسائل التي احتوتها ( بلاغة علي بن الحسين عليه السلام ) وجمعتها كتب تراثية عديدة ( 2 ) ‹ صفحة 65 ›

وجمع أسماء من روى عنه في كتب أخرى ( 1 )
ومجموع من ذكرهم الشيخ الطوسي - فقط - من الرواة عن الإمام عليه السلام بلغوا ( 170 ) راويا ( 2 ) .
ولا ريب أن مجموع هذا العلم ليس يسيرا ،
فلا بد أن يكون ذلك قد حصل بعد تلك الفترة القصيرة فقط . إن كل تلك الفعاليات الكلامية –
والعملية لمما يتيقن معها بأن الإمام السجاد عليه السلام - بعد تلك الفترة - لم يسكن مطرقا ، ولم يسكت صامتا ، ولم ينعزل عن الناس ، بل زاول نشاطا واسعا في الحياة العامة ،
بل - كما ذكره النسابة - قد روى الحديث ، وروي عنه ، وأفاد علما جما ( 3 ) . وستتكفل الفصول القادمة في هذا الكتاب ذكر الشواهد على كل هذا النشاط بعون الله .

الشيخ حسن العبد الله 12-24-2010 09:28 PM




ومع وقعة الحرة :
ورجع الإمام السجاد عليه السلام إلى المدينة : ليستقبله أهلها ، بالبكاء والتعزية ، ويستفيد الإمام من هذه العواطف لينشر أنباء حوادث كربلاء ، ويركزها في الأذهان من طريق القلوب ، كي لا يطالها التشويش والإنكار ، بمرور الأعصار ، كما طال كثيرا من الوقائع والحوادث ، فأصبحت مغمورة أو مبتورة ! فأرسل بشر بن حذيم ( 4 ) إلى المدينة وأهلها ناعيا الحسين عليه السلام ومعرفا إياهم بمكان الإمام السجاد عليه السلام . قال بشر : فما بقيت في المدينة مخدرة ولا محجبة إلا برزن من خدورهن ، . . . ، فلم ‹ صفحة 66 › أر باكيا أكثر من ذلك اليوم ، ولا يوما أمر على المسلمين منه . قال : فخرج علي بن الحسين ، ومعه خرقة يمسح بها دموعه ، وخلفه خادم معه كرسي ، فوضعه له وجلس عليه ، وهو لا يتمالك عن العبرة ، وارتفعت أصوات الناس بالبكاء ، وحنين النسوان والجواري ، والناس يعزونه من كل ناحية ، فضجت تلك البقعة ضجة واحدة ، فأومأ بيده : أن اسكنوا ، فسكنت فورتهم ، فقال : ( الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، بارئ الخلق أجمعين ، الذي بعد فارتفع في السماوات العلا ، وقرب فشهد النجوى ، نحمده على عظائم الأمور ، وفجائع الدهور ، وألم الفجائع ، ومضاضة اللواذع ، وجليل الرزء ، وعظيم المصائب الفاظعة ، الكاظة ، الفادحة الجائحة . أيها القوم ! إن الله تعالى ابتلانا بمصائب جليلة ، وثلمة في الإسلام عظيمة ، قتل أبو عبد الله ، الحسين ، وعترته ، وسبيت نساؤه وصبيته ، وداروا برأسه في البلدان من فوق عالي السنان ، وهذه الرزية التي لا مثلها رزية . أيها الناس ! فأي رجالات منكم يسرون بعد قتله ؟ أم أي فؤاد لا يحزن من أجله ؟ أم أية عين منكم تحبس دمعها ، وتضن عن انهمالها ؟ فلقد بكت

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 61 › ( 1 ) يلاحظ أن كلمة ( الناس ) في حديث أهل البيت : عليهم السلام - خاصة - يطلق على غير المعتقدين بالإمامة ، في أغلب الأحيان . ( 2 ) فرحة الغري ، لابن طاوس ( ص 43 ) الإمام زين العابدين ، للمقرم ( ص 42 ) ولاحظ الكافي للكليني ، قسم الروضة ( ص 255 ) حيث جاء فيها حديث زيارة الإمام السجاد لقبر أمير المؤمنين عليه السلام ولقاء أبي حمزة الثمالي له ، فليلاحظ . ‹ هامش ص 62 › ( 1 ) الاحتجاج للطبرسي ( ص 306 ) وانظر اللهوف لابن طاوس ( ص 6 - 67 ) ويبدو أن هذا الاجتماع كان بعد عودة الإمام عليه السلام من الشام إلى الكوفة أو في بعض أسفاره السرية إلى العراق ! . وانظر فضل الكوفة من مزار ابن المشهدي ( ص 78 ) . ‹ هامش ص 63 › ( 1 ) كان علي بن الحسين أحب الناس إلى مروان وابنه عبد الملك . طبقات ابن سعد ( 5 : 159 ) تاريخ دمشق ( الأحاديث 38 - 40 ) وابن كثير في البداية والنهاية ( 9 : 106 ) وتذكرة الحفاظ ( 1 : 75 ) . ( 2 ) الإمامة والتبصرة من الحيرة ، لابن بابويه ( ص 167 ) الحديث ( 20 ) ، وانظر مصادر تخريجه . ولاحظ أمالي الطوسي ( 1 / 297 ) ‹ هامش ص 64 › ( 1 ) نقله الصدوق في إكمال الدين ( ص 91 ) عن كتاب ( التنبيه ) للنوبختي . ( 2 ) لاحظ تدوين السنة الشريفة ( ص 150 - 152 ) وراجع معجم ما كتب . . . للرفاعي بالأرقام : 20397 باسم ( التذكرة ) و 20415 باسم التعقيبات ، و 20482 باسم الديوان و 20688 باسم المخمسات ، و 20733 - 20736 باسم ( الندبة ) و 20737 و 20738 باسم نسخة . ‹ هامش ص 65 › ( 1 ) لاحظ معجم ما كتب بالأرقام : 20483 باسم ذكر من روى عن الإمام عليه السلام للصدوق ، و 20714 كتاب من روى عنه عليه السلام لابن عقدة . ( 2 ) رجال الطوسي ( ص 107 - 120 ) الأرقام ( 1058 - 1228 ) وهم مائة وسبعون راويا ، لعلم الإمام عليه السلام . ( 3 ) المجدي في أنساب الطالبيين ( ص 92 ) . ( 4 ) كذا في بعض نسخ المصدر ، ويظهر من هذه الرواية أن أباه كان شاعرا وقد ترحم عليه الإمام عليه السلام ، وفي أصحابه : حذيم بن شريك الأسدي ، وجاء في نسخ أخرى : بشير بن حذلم .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 66 - 72
السبع الشداد لقتله ! وبكت البحار بأمواجها ! والسماوات بأركانها ! والأرض بأرجائها ! والأشجار بأغصانها ! والحيتان في لجج البحار ! والملائكة المقربون ! وأهل السماوات أجمعون ! أيها الناس ! أصبحنا مشردين ، مطرودين ، مذودين ، شاسعين عن الأمصار ، كأننا أولاد ترك وكابل ، من غير جرم اجترمناه ، ولا مكروه ارتكبناه ، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها ، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ، إن هذا إلا اختلاق . والله ! لو أن النبي تقدم إليهم في قتالنا ، كما تقدم إليهم في الوصية بنا ، لما زادوا على ما فعلوا بنا . فإنا لله وإنا إليه راجعون ، من مصيبة ما أعظمها ، وأفجعها ، وأكظها ، وأفظعها ، وأمرها ، وأفدحها ! ‹ صفحة 67 › فعنده نحتسب ما أصابنا ، فإنه عزيز ذو انتقام ( 1 ) . ولم تذكر المصادر شيئا عن رجالات المدينة المعروفين ، إلا أن صوحان بن صعصعة بن صوحان قام فاعتذر إليه ، فترحم الإمام على أبيه ! والظاهر أن رجال المدينة اكتفوا في مواجهة الإمام السجاد عليه السلام بالعواطف الحارة فقط ، وأنهم لم يتجاوزوا ذلك ، إذ لم يجدوا مبررا في التورط مع الحكومة ، ولو بعد قتل الحسين عليه السلام بهذه الصورة التي شرحها لهم الإمام السجاد عليه السلام . ويظهر من البيان الذي أصدره أهل المدينة عند تحركهم ضد يزيد وحكومته أنهم قبل ذلك لم يعرفوا من يزيد ما ينكر من فعل أو ترك ، حتى وفدوا عليه ، وحضروا بلاطه ، ورأوا بأم أعينهم ما رأوا ، فرجعوا ، وثاروا عليه . وقد جاء في إعلانهم الأول ما نصه : ( إنا قدمنا من عند رجل ليس له دين ، يشرب الخمر ، ويدع الصلاة ، ويعزف بالطنابير ، وتضرب عنده القيان ، ويلعب بالكلاب ، ويسامر الخراب ، والفتيان ، وإنا نشهدكم أنا قد خلعناه ) . وأتوا عبد الله بن الغسيل ، فبايعوه وولوه عليهم ( 2 ) . فليس في بيانهم ذكر الحسين عليه السلام ، ولا الظلم الذي جرى على أهل البيت عليهم السلام وأما الذي ذكروه من يزيد وإلحاده وفسقه وفجوره ، فقد أعلنه الإمام الحسين عليه السلام قبل سنين في كتابه إلى معاوية ( 3 ) . فأين كان أهل المدينة يومذاك ؟ ! ولماذا لم يتحركوا من أجله حينذاك ؟ ثم إن من يحركه شرب الخمر ، والفسق ، والفجور ، لماذا لا يتحرك من أجل قتل الحسين عليه السلام والفجائع التي صبت على أهل البيت عليهم السلام ، والتي أدى علي بن الحسين عليهم السلام حق بلاغها في خطبته تلك ؟ ‹ صفحة 68 › بل ، إن المسعودي يذكر : أن حركة أهل المدينة وإخراجهم بني أمية وعامل يزيد ، من المدينة ، كان عن إذن ابن الزبير ( 1 ) . فلم يكن لأهل البيت ، ولا للإمام السجاد عليه السلام ، دور ولا موقع في أهداف أهل المدينة ، وأصحاب الحرة ، لما تحركوا ضد حكم يزيد ! بينما كان دخول الإمام عليه السلام معهم - في التحرك - توقيعا على شرعية حركتهم . والحق أن أهل المدينة جفوا الإمام السجاد عليه السلام بعد كربلاء ، وهذه الحقيقة كانت واضحة ، حتى أعلنها الإمام في قوله : ( ما بمكة والمدينة عشرون رجلا يحبنا ) ( 2 ) ولعل علم الإمام عليه السلام بما كان عليه أهل المدينة من ضعف وقلة ، في مواجهة ما كان عليه أهل الشام من كثرة وبطش وقسوة ، من دواعي حياده عليه السلام . مضافا إلى أن اتخاذه القرار السابق ، بالابتعاد عن المدينة ، للأسباب والمبررات التي ذكرناها سابقا ، كان كافيا لعدم تورطه في هذه الحركة . ويظهر أن الدولة التي واجهت هذه المرة حركة أهل المدينة ، كانت على علم بجفاء أهل المدينة لأهل البيت عليه السلام ، وبما أنها قد أسرفت من قبل في إراقة دماء أهل البيت عليهم السلام ، أرادت أن تستفيد من الوضع ، بالتزلف إلى علي بن الحسين والتودد إليه ، لامتصاص النقمة ، فلم تتحرش به ، بل حاولت أن يتمثل الناس به ، حسب نظر رجال الدولة ! ثم إن اختيار أهل الحرة للمدينة بالذات مركزا للتحرك ، كان من أخطر الأخطاء التي ارتكبوها ، كما أخطأ ابن الزبير في اتخاذه مكة ، والمسجد الحرام بالخصوص ، مركزا لتحركه ، حتى عرضوا هذين المكانين الحرمين المقدسين لهجمات أهل الشام اللئام وانتهاك الأمويين الحاقدين على الإسلام ومقدساته . بينما أهل البيت عامة ، بدءا بالإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام ، ومرورا بالإمام ‹ صفحة 69 › الحسين عليه السلام ، وكذلك كل العلويين الذين ثاروا على الحكام ، إنما خرجوا في حركاتهم عن الحرمين ، حفاظا على كرامتهما من أن يهدر فيهما دم ، وتهتك لهما حرمة ، وإبعادا لأهالي الحرمين من ويلات الحروب ومآسيها ، ونقمة الجيوش وبطشها ( 1 ) . وهذه مأثرة لأهل البيت عليهم السلام لا بد أن يذكرها لهم التاريخ ! لكن أهل الحرة ، لم يصلوا إلى المستوى اللائق كي يدركوا هذه الحقائق ، لبعدهم عن الإمام السجاد عليه السلام الذي كان في عمر ( 26 ) سنة . ولقد هيأ هذا البعد بين أهل المدينة والإمام السجاد عليه السلام أمرين كانا في صالح الإمام عليه السلام ، ولهما الأثر في مجاري عمله وتخطيطه للمستقبل : أحدهما : النجاة من اتهام السلطات له بالتورط في الحركة ، ولذلك لم تضعه في القائمة السوداء ، فإن الحكومة - وحسب بعض المصادر - كانت تعرف ابتعاده عنها . الثاني : تمكن الإمام عليه السلام من تخليص كثير من الرؤوس أن تقطع ، وكثير من الحرمات أن تهتك . ومن يدري ؟ فلعل اشتراك الإمام السجاد عليه السلام في تلك الحركة كان يؤدي إلى إبادة أهل البيت النبوي والعلوي ، إبادة شاملة ، تلك التي كانت من أماني آل أمية ؟ ! فتمكن الإمام السجاد عليه السلام بحياده ذلك من الوقوف في وجه هذا العمل . ولقد كان الإمام عليه السلام ملجأ للكثير من العوائل الأخرى ، حتى من عوائل بني أمية نفسها . ففي الخبر أنه عليه السلام ضم إلى نفسه أربعماءة منافية يعولهن إلى أن تفرق الجيش ( 2 ) . وكان في من آواهن عائلة مروان بن الحكم ، وزوجته هي عائشة بنت عثمان بن عفان الأموي ، فكان مروان شاكرا لعلي بن الحسين ذلك ( 3 ) . ‹ صفحة 70 › ويحاول بعض الكتاب أن يجعل من حياد الإمام عليه السلام ، وتصرفاته مع مروان ، وعدم تعرضه من قبل الجيش بسوء ، دليلا على عدم تحركه عليه السلام ضد الحكم الأموي ؟ ! لكنها محاولة مخالفة للحقيقة : فإن الإمام عليه السلام إنما ينطلق في تصرفاته ، من منطلق الحكمة والتدبير ، وما ذكرناه من الشواهد كاف لأن نبرر موقفه الحيادي من حركة الحرة ، فكل من يدرك تلك الحقائق ويقف عليها يتبين له أن التحرز من عمل تكون عواقبه مرئية وواضحة ومكشوفة ، هو الواجب والمتعين ، فلو دخل في الحركة ، فإما أن ينسحق تحت وطأة الجيش الظالم ، أو تنجح الحركة التي لم تبتن على الحق في دعواها ، وإنما تبناها من لا يعرف لأهل البيت حرمة ولا كرامة ولا حقا في الإمامة ! مع أن من النصوص ما يدل على أن الإمام كان مستهدفا : قال الشيخ المفيد : قدم مسرف ( 1 ) بن عقبة المدينة ، وكان يقال : ( إنه لا يريد غير علي بن الحسين عليه السلام ) ( 2 ) . ولا ريب أن الحكم الأموي الذي استأصل أهل البيت عليهم السلام في كربلاء ، لم يكن يخاف الإمام السجاد عليه السلام ، لما هو معلوم من وحدته وغربته ، ومع ذلك فقد كانت الدولة تراقبه ، لأنه الوارث الوحيد لأهل البيت بمالهم من ثارات ودماء ، وبما لهم من مكانة مرموقة في أعين محبيهم ، الذين يترقبون فيهم من الإمامة ! فلا ريب أن الإمام السجاد عليه السلام كان مستهدفا ! وهذا النص قبل كل شي يدل على أن الإمام السجاد عليه السلام كان في نظر الناس عنصرا معارضا للحكم والدولة ، ولم يكن مستسلما قط ، حتى كان الناس يرون أن ‹ صفحة 71 › الجيش الجرار إنما توجه بقصده إلى ( علي بن الحسين ) لا ليحترمه طبعا ! فعلي بن الحسين ، في نظر الناس ، لا يزال عدوا للدولة ، رغم انعزاله ، وابتعاده ، وعدم تورطه في الحركة ! كما يدل قول البلاذري أن علي بن الحسين عليه السلام استجار بمروان وابنه عبد الملك ، فأتيا به ليطلبا له الأمان ( 1 ) على أن الإمام عليه السلام كان يخشى من فتك مسرف بن عقبة . لكن الدولة ، التي لم تغفل عن الإمام السجاد عليه السلام كانت على علم بتصرفاته ، ولم يقع لها ما يبرر اتهامه وصب جام الغضب عليه والفتك به . ومن أجل امتصاص النقمة ، وخاصة بعد تحرك أهل المدينة ، صار رجال الدولة إلى النفاق ، لتغطية جرائمهم تجاه أهل البيت وتجاه المدينة وأهلها ، فأخذوا يعلنون التزلف إلى الإمام عليه السلام بإظهار التودد إليه ، ويكرمونه ، ويقربونه ، ويعبرون عنه ب‍ ( الخير الذي لا شر فيه ، مع موضعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومكانه منه ) ( 2 ) . وقال المسعودي : ونظر الناس إلى علي بن الحسين السجاد ، وقد لاذ بالقبر وهو يدعو ، فأتي به إلى مسرف ، وهو مغتاظ عليه ، فتبرأ منه ومن آبائه ، فلما رآه وقد أشرف عليه ارتعد ، وقام له ، وأقعده إلى جانبه ، وقال له : سلني حوائجك ، فلم يسأله في أحد ممن قدم إلى السيف إلا شفعه فيه ، ثم انصرف عنه . فقيل لعلي : رأيناك تحرك شفتيك ، فما الذي قلت ؟ قال : قلت : اللهم رب السماوات السبع وما أظللن ، والأرضين وما أقللن ، رب العرش العظيم ، رب محمد وآله الطاهرين ، أعوذ بك من شره ، وأدرأ بك في نحره ، أسألك أن تؤتيني خيره ، وتكفيني شره . وقيل لمسلم : رأيناك تسب هذا الغلام وسلفه ، فلما أتي به إليك رفعت منزلته ! ؟ فقال : ما كان ذلك لرأي مني ، لقد ملئ قلبي منه رعبا ( 3 ) .














الشيخ حسن العبد الله 12-24-2010 09:47 PM

وهكذا يفرض عنصر ( الغيب ) نفسه في البحث ، ولا يمكن إبعاده لكونه واردا في المصادر المعتمدة . ‹ صفحة 72 › ونحن وإن كنا أبعدنا هذا العنصر عن ما نستشهد به ، إلا أن الذين يريدون أن يضفوا على حياة الإمام السجاد عليه السلام أشكال العبادة والزهد والحياة الروحية ، عليهم أن لا يستبعدوا هذا العنصر ! مع أن خوف الإمام عليه السلام وفزعه ، من الجيش السفاك ، ولجوءه وعوذه بالحرم الشريف ، وسب القائد الأموي له وتبرؤه منه ، أدلة كافية في إثبات أن الإمام عليه السلام كان مستهدفا ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 67 › ( 1 ) اللهوف لابن طاوس ( ص 4 - 85 ) وانظر كامل الزيارات ( ص 100 ) . ( 2 ) أيام العرب في الإسلام ( ص 420 ) وانظر تاريخ الطبري ( 4 : 368 ) ولاحظ طبقات ابن سعد ( 5 : 47 ) ( 3 ) الاحتجاج للطبرسي ( 7 - 298 ) . ‹ هامش ص 68 › ( 1 ) مروج الذهب ( 3 : 78 ) . ( 2 ) شرح نهج البلاغة ( 104 : 4 ) . ‹ هامش ص 69 › ( 1 ) علق سماحة السيد بدر الدين الحوثي دام علاه هنا : ( ولعل ما صدر من الإمام النفس الزكية كان اضطراريا ، لأن قيامه أيضا كان اضطراريا ) تمت . ( 2 ) كشف الغمة للأربلي ( 2 / 7 ) وانظر ربيع الأبرار للزمخشري ( 1 : 427 ) . ( 3 ) أيام العرب في الإسلام ( ص 424 ) هامش ( 1 ) . ‹ هامش ص 70 › ( 1 ) هو المتسمي باسم ( مسلم ) معدود من الصحابة ، وهذا واحد من المحسوبين على الصحابة من الفسقة والمجرمين ، سمي لعنه الله بمجرم ومسرف ، لما كان من إجرامه بأهل المدينة وإسرافه في قتلهم وإباحتها ثلاثة أيام بأمر يزيد لعنهما الله وقد سمى المدينة ( نتنة ) خلافا لرسول الله صلى الله عليه وآله الذي سماها طيبة ، مروج الذهب ( 3 : 78 ) وقد انفض فيها ألف عذراء ، دلائل البيهقي ( 6 : 475 ) . ( 2 ) الإرشاد للمفيد ( ص 292 ) . ‹ هامش ص 71 › ( 1 ) أنساب الأشراف ( 4 : 323 ) وانظر الأخبار الطوال للدينوري ( ص 266 ) . ( 2 ) الإرشاد للمفيد ( ص 260 ) . ( 3 ) مروج الذهب ( 3 : 8 ) . ‹ هامش ص 72 › ( 1 ) نقله الثعالبي في آخر كتاب ( ثمار القلوب ) بواسطة : علي جلال في ( الحسين ) ( 2 : 195 ) . ( 2 ) اختيار معرفة الرجال ( رجال الكشي ) ( ص 123 ) رقم ( 194 ) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 72 - 81
إلا أن سياسته الحكيمة التي اتخذها منذ دخوله المدينة كانت من أسباب نجاته وخلاصه من المصير الذي سحق كبار أهل المدينة وأشرافها ! ومع أعباء القيادة : ورجع الإمام عليه السلام إلى المدينة : ليواجه الخطر المحدق بالإسلام ، والذي انتشر في نفوس الأمة وهو اليأس والقنوط من الدين وأهدافه ، بعد ما تعرض الحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمثل هذا القتل ، وما تعرض له أهله من التشريد والسبي ، في بلاد المسلمين . فهذا الوزير عبيد الله بن سليمان كان يرى : أن قتل الحسين أشد ما كان في الإسلام على المسلمين ، لأن المسلمين يئسوا بعد قتله من كل فرج يرتجونه ، وعدل ينتظرونه ( 1 ) . هذا بالنسبة إلى أصل الإسلام . وأما بالنسبة إلى الإمامة ، وإلى أهل البيت ، وإلى الإمام عليه السلام ، فقد تفرق الناس عنهم ، وأعرضوا ، بحيث عبر الإمام الصادق عليه السلام عن ذلك : بالارتداد . قال عليه السلام : ارتد الناس بعد قتل الحسين عليه السلام إلا . . . ( 2 ) . وكان منشأ اليأس والردة : أنهم وجدوا الآمال قد تبددت بقتل القائد ، وسبي أهله ، وظهور ضعف الحق وقلة أنصاره ، هذا من جهة . ‹ صفحة 73 › ومن جهة أخرى ملأ الرعب قلوبهم لما وجدوا الدولة على هده القوة والجرأة والقسوة ، فكيف يمكن التصدي لها ، والإمام في مثل هذا الموقع من الضعف ، فليس التقرب منه إلا مؤديا إلى الاتهام والمحاسبة ، فلذلك ابتعد الناس عن الإمام عليه السلام . لكن الإمام زين العابدين عليه السلام بخطته الحكيمة استفاد من هذا الابتعاد ، وقلبه إلى عنصر مطلوب ، ومفيد لنفسه ، وللجماعة الباقية من حوله على ولائه . حتى أصبح ، بما ذكرنا من التصرفات ، في نظر رجال الحكم ( خيرا لا شر فيه ) . وبذلك التخطيط الموفق حافظ الإمام عليه السلام ، لا على نفسه وأهل بيته من الإبادة الشاملة ، فقط ، بل تمكن من استعادة قواه ، واسترجاع موقعه الاجتماعي بين الناس ، لكونه مواطنا صالحا لا يخاف من الاتصال به والارتباط به . لأنه أصبح ( علي الخير ) ( 1 ) . وطبيعي أن يعود الناس ، وتعتدل سيرتهم مع الإمام حينئذ ، ولذلك قال الإمام الصادق عليه السلام في ذيل كلامه السابق : ( . . . ثم إن الناس لحقوا وكثروا ) ( 2 ) . إن انفراط أمر الشيعة بعد مقتل الحسين عليه السلام وتشتت قواهم ، كان من أعظم الأخطار التي واجهها الإمام السجاد عليه السلام بعد رجوعه إلى المدينة ، وكان عليه - لأنه الإمام ، وقائد المسيرة - أن يخطط لاستجماع القوى ، وتكميل الإعداد من جديد ، وهذا كان بحاجة إلى إعداد نفسي وعقيدي وإحياء الأمل في القلوب ، وبث العزم في النفوس . وقد تمكن الإمام السجاد عليه السلام بعمله الهادئ الوادع من الإشراف على تكميل هذه الاستعادة ، وعلى هذا الإعداد ، والتمهيد ، بكل قوة ، وبحكمة وبسلامة وجد . وكما قد يكون تأسيس بناء جديد ، أسهل وأمتن من ترميم بناء متهرئ ، فكذلك ، إن بناء فكرة في الأذهان الخالية من الشبهات ، والمليئة بالأمل بهذه الفكرة ، والجادة في الالتفاف حولها ، والعزم على إحيائها ، هو أسهل ، وأوفر جهدا من محاولة ترميم فكرة أصاب الناس يأس منها ، وتصوروا إخفاق تجربتها ، وهم يشاهدون إبادة ‹ صفحة 74 › كبار حامليها ، وضعف أنصارها ، واستيلاء المعارضين عليها ، فحرفوا معالمها ، وشوهوا سمعتها ، وزيفوا أهدافها . فإن عامة الناس يقفون موضع الحيرة والشك من كل ما قيل وطرح وعرض ، ويحاولون الانسحاب والارتداد ، والوقوف على الحواشي ، ليروا ما يؤول إليه أمر القيادات المتنازعة ! فقد مني المسلمون بإخفاق ويأس مما في الإسلام من خطط تحررية ، ومخلصة من العبودية والفساد ، وذلك لما رأوا الأمويين - أعداء هذا الدين قديما ، ومناوئيه حديثا - قد استولوا على الخلافة ، وبدأوا يقتلون أصحاب هذا الدين من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والأنصار القدماء له ، ويعيثون فسادا في أرض الإسلام بالقتل والفجور ، وكل منكر ، حرمه الإسلام . وإذا كان صاحب الحق ، منحصرا في الإمام علي بن الحسين السجاد عليه السلام ، الذي قام النص على إمامته ، وهو وارث العترة ، وزعيم أهل البيت في عصره ، فهو الإمام الحامل لثقل الرسالة على عاتقه ، فلا بد أن يدبر الخطة الإصلاحية ، ليجمع القوى ، ويلملم الكوادر المتفرقة ، ويعيد الأمل إلى النفوس اليائسة ، والرجاء إلى العيون الخائبة ، والحياة إلى القلوب الميتة . إلى جانب مقاومته للأعداء ، وتفنيد مزاعمهم واتهاماتهم ، والكشف عن مؤامراتهم ودسائسهم ، وتبديد خططهم وأحابيلهم ! إن أئمة أهل البيت عليهم السلام - مع مالهم من مآثر العلم والمجد والإمامة ، التي أقر بها لهم جميع الأمة - هم يهتمون بغرز معاني النضال والجهاد في نفوس أبنائهم منذ نعومة أظفارهم ، ليرسخوا في نفوسهم أمجاد الإسلام . والإمام عليه السلام قد استلهم الإسلام بكل ما له من معارف ومآثر علمية وعملية ، فأخذها من مصادرها الأمينة الموثوقة . وهم آباؤه الطاهرون . وكان في طليعة ما أخذ من المعارف هو مغازي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسراياه ، كما في الحديث عن عبد الله بن محمد بن علي ، عن أبيه . قال : سمعت علي بن الحسين يقول : ‹ صفحة 75 › كنا نعلم مغازي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسراياه كما نعلم السورة من القرآن ( 1 ) . فتلقن الإمام السجاد عليه السلام أمثل صور الجهاد والنضال في سبيل الله ومن أجل الإسلام ، فرسمها في قرارة نفسه منذ الطفولة . وبعد أن رأى بأم عينيه - في كربلاء - بطولات أبيه الإمام الحسين عليه السلام وجهاد أصحابه الأوفياء ، في سبيل إعلاء كلمة الله ، لم يكن ليرفع اليد عن محاولة تطبيق تلك الصور الفريدة ، والتخطيط للوصول إلى نتائجها الغالية .

الشيخ حسن العبد الله 12-24-2010 09:52 PM


ولقد بدأ الإمام السجاد عليه السلام في الفصول التالية ، من جهاده وجهوده ، لتحقيق هذه الأهداف السامية . وحاولنا - نحن - بقدر وسعنا ، لجمع ما انتشر من أنبأ ذلك الجهاد ، وتلك الجهود ، في المجالات العملية والعلمية ، بعون الله وتوفيقه . ‹ صفحة 77 ›


الفصل الثاني


النضال الفكري والعلمي أولا :
في مجال القرآن والحديث ثانيا :
في مجال الفكر والعقيدة ثالثا :

في مجال الشريعة والأحكام
وأخيرا : في إعمار الكعبة المعظمة ‹ صفحة 79 ›

يكاد المؤرخون لحياة الإمام السجاد عليه السلام ، لا سيما الدارسون الاجتماعيون ، الذين يريدون إبعاد الإمام عن الحياة السياسية ، يتفقون على أن الإمام عليه السلام : ( انكب على الشؤون الدينية ، ورواية الحديث ، والتعليم ) ( 1 ) وأن مهمته كانت : ( الانصراف إلى بث العلوم ، وتعليم الناس ، وتربية المخلصين ، وتخريج العلماء والفقهاء ، والإشراف على بناء الكتلة الشيعية ) ( 2 ) . ولا ريب في أن الإمام السجاد عليه السلام قام بدور بليغ في هذه المجالات كلها ، ولكن لم تكن - قط - هذه الأمور خارجة عن العمل السياسي ، أو بديلا عن العمل السياسي ! بل ، إن هذه الواجبات هي من أهم وظائف الأنبياء والأئمة بل المصلحين السياسيين من البشر ، بأن يقوموا بها ، ويبلغوا بالأمم والشعوب إلى مستويات راقية فيها ، خاصة التعاليم الإلهية التي من أجلها بعثوا ، ولها عينوا ، وبتبليغها وبثها كلفوا ، وهم طريق معرفة الناس بها ، والأمناء الوحيدون عليها . والتعليم الصحيح هو واحد من طرق النضال ، فكل مناضل يعلم - بوضوح - أن من مقومات كل حركة سياسية ، هو تثقيف الجماهير ، وتوعيتها ، بالتعليم والتلقين ، لتكون على علم بما يجري حولها وما يجب لها من حقوق وما عليها من واجبات . وقد سعى الحكام الفاسدون - على طول التاريخ - إلى إبعاد الناس عن الحق ، والتعاليم الأصيلة ، بطرق شتى : ‹ صفحة 80 › منها : التصدي للذين يبلغون رسالات الله ، بالضغط ، والأسر ، والتشريد ، والحبس ، وحتى القتل . ومنها : تزييف الأديان وتحريفها بالبدع والخرافات ، وبث التعاليم الباطلة ، والعمل من أجل ترويجها . ومنها : منع تثقيف الناس ، حذرا من تنبههم إلى ما هم عليه من خلل ونقص في الحياة المادية ، وما هم فيه من ذل ومهانة في الحياة المعنوية . ومنها : محاولة استيعاب أجهزة التعليم ، بوضع المناهج التعليمية المشبوهة والمحرفة . وهكذا تضييع جهود القائمين على التعاليم ، بشراء الضمائر ، وغسل الأدمغة والعقول ، وتفريغها من الرؤى الصائبة ، وملئها بالأفكار الفاسدة والمنحرفة . وقد استعمل معاوية هذا الأسلوب بكل جرأة لما استولى على أريكة الخلافة ، فعمم كتابا على أقطار نفوذه ، يأمر فيه الولاة بوضع الأحاديث والروايات واختلاقها ، وبثها بين الناس في المدارس والمساجد والكتاتيب والبيوت ، ليربي جيلا ناشئا مشبعا بتلك التعاليم المزورة في صالح الأمويين ، والتي تعارض التعاليم الإسلامية الأصيلة ( 1 ) . فوجود المعلمين المناهضين لتلك الخطط الهدامة ، وتلك المناهج التعليمية الفاسدة ، يكون صدا سياسيا للأنظمة الحاكمة ، ويكون عملهم جهادا ونضالا سياسيا ، بلا ريب . وإن الحكومات الفاسدة ، من أجل تنفيذ خططها في تحريف الدين وإغواء الناس وإبعادهم عن العلماء المصلحين ، اصطنعت من علماء السوء رجالا مقنعين بالعلم ، ملجمين بلباس الدين ، من العملاء بائعي الضمائر ، ليكونوا وسائل لإقناع العامة بما تمليه الدولة عليهم من أحكام باطلة ، وقضايا منافية للحق ، وليصححوا للدول الظالمة تصرفاتها الجائرة . ‹ صفحة 81 › فكان التصدي لهؤلاء ، وفضح دسائسهم ، وإبطال استدلالاتهم ، والكشف عن سوء نياتهم ، من واجب الأئمة والمصلحين الإلهيين . وقد قام الإمام السجاد عليه السلام في عصره بأداء دور مهم في هذا الميدان الشائك بعد أن استلهم العلوم من مصادرها الأمينة الموثوقة وصار الدور إليه في قيادة الأمة ودلالتها إلى الحق والخير . فكان معلما للحق ، يبث الفضيلة ، ويدعو إلى الإسلام المحمدي الأصيل ، الذي توارثه عن آبائه ، والموصول بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأوثق السبل ، وأقرب الطرق . وأصبح -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 72 › ( 1 ) نقله الثعالبي في آخر كتاب ( ثمار القلوب ) بواسطة : علي جلال في ( الحسين ) ( 2 : 195 ) . ( 2 ) اختيار معرفة الرجال ( رجال الكشي ) ( ص 123 ) رقم ( 194 ) . ‹ هامش ص 73 › ( 1 ) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ( 15 : 273 ) . ( 2 ) اختيار معرفة الرجال ( الكشي ) ( ص 123 ) رقم ( 194 ) . ‹ هامش ص 75 › ( 1 ) الجامع لأخلاق الراوي والسامع للخطيب البغدادي ( 2 / 288 ) رقم ( 1649 ) . ‹ هامش ص 79 › ( 1 ) معتزلة اليمن ( ص 17 - 18 ) . ( 2 ) الإمام السجاد عليه السلام لحسين باقر ( ص 13 - 14 ) . ‹ هامش ص 80 › ( 1 ) لاحظ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ( 11 : 44 - 46 ) والاحتجاج للطبرسي ( ص 295 ) ولاحظ كتابنا ( تدوين السنة الشريفة ) ( ص 475 ) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 81 - 87
لكونه حاملا أمينا للتعاليم الإسلامية الرصينة ، وقائما مخلصا بالشؤون الدينية الحقة - سدا منيعا في مواجهة كل انحراف وتزوير كان يبديه علماء السوء من وعاظ السلاطين . ولا ريب في أن مواجهة الإمام السجاد عليه السلام للدولة في هذا النضال ، لا بد أن تعد في قمة أعماله السياسية ، ومن أخطر أوجه النضال السياسي في حياته الكريمة . وقد اخترنا مجالات ثلاثة عمل فيها الإمام عليه السلام ، لنقف على أوجه نشاطه فيها ، وهي : ‹ صفحة 82 › أولا : مجال القرآن والحديث . عاش الإمام السجاد عليه السلام ، فترة نشاطه إماما للشيعة ، من سنة ( 61 - 95 ) مدة الثلث الأخير من القرن الأول . والقرن الأول بالذات هو فترة المنع الحكومي من رواية الحديث ونقله وكتابته وتدوينه ، قبل أن يرفع هذا المنع بقرار من قبل الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز . وكانت عملية منع الحديث - تدوينا ورواية - بدأت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة ، واستمر عليها الحكام الذين تسنموا أرائك الخلافة بدءا بأبي بكر ، ثم عمر الذي كان أكثر تشديدا ونكيرا على من كتب شيئا من الحديث أو نقله ورواه ، بحيث استعمل كل أساليب القمع من أجل الوقوف دون تسرب شي منه ، فحبس جمعا من الصحابة من أجل روايتهم الحديث ، وهدد آخرين بالضرب والنفي ، وأحرق مجموعة من الكتب التي جمعت حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . والتزم الحكام من بعد عمر ، سنة عمر وسياسته في منع تدوين الحديث وروايته ، وقد أعلن عثمان ومعاوية عن اتباعهما لعمر في منع الحديث النبوي ( إلا حديثا كان على عهد عمر ) ( 1 ) . وقد ظلت سياسة عمر بمنع الحديث سارية المفعول ، حتى بلغ الأمر إلى أن الحجاج الثقفي - سفاك العراق - قام بالاعتداء على كبار صحابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فختم على أيديهم وأعناقهم ، حذرا من أن يحدثوا الناس ، أو يسمع الناس حديثهم ( 2 ) . فلم يكن القيام بأمر رواية الحديث في مثل هذه الفترة بالذات ، وفي مثل هذه الأجواء أمرا سهلا ، ولا هينا . ولقد قاوم أئمة أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم هذه السياسة المخربة ضد أهم مصادر الفكر الإسلامي ، فكانوا إلى جانب كتابتهم للحديث ، وإيداعه المؤلفات يبادرون ‹ صفحة 83 › بحزم إلى رواية الحديث ونشره وبثه ، على طول تلك الفترة ! وقد عرفنا أن الإمام السجاد - كما قال ابن سعد - : كان ( ثقة مأمونا كثير الحديث عاليا رفيعا ورعا ) ( 1 ) وقد أكثر من نقل الحديث وروايته حتى أفاد علما جما ، كما قال النسابة العمري ( 2 ) ولا ريب في أن تصدي الإمام السجاد عليه السلام للوقوف في وجه المنع السلطوي ، وقيامه بأمر رواية الحديث ونقله ، ليس إلا تحديا صارخا لأوامر الدولة وسياستها ! . ثم إنه عليه السلام كان يطبق السنة ويدعو إلى تطبيقها والعمل بها فقد روي عنه أنه قال : إن أفضل الأعمال ما عمل بالسنة وإن قل ( 3 ) . وكان يندد بمن يستهزئ بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويدعو عليه ويقول : ما ندري ، كيف نصنع بالناس ؟ ! إن حدثناهم بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضحكوا ، وإن سكتنا لم يسعنا . ثم ندد بمن هزأ من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( 4 ) . وقد رويت عن الإمام السجاد عليه السلام مجموعة كبيرة من الأحاديث المسندة المرفوعة ، وأخرى موقوفة على آبائه عليهم السلام . وأما ما صدر منه من الحديث الذي يعتبر من عيون الحديث الذي يعتز به التراث الشيعي فكثير جدا ، ولذلك عد الحافظ الذهبي ، الإمام السجاد عليه السلام من الحفاظ الكبار وترجم له في طبقات الحفاظ الكبار ( 5 ) . ومع كل هذا ، فأين موقع كلمة قالها بعض النواصب أن الإمام عليه السلام كان ( قليل الحديث ) ! ؟ ( 6 ) ‹ صفحة 84 › ثم إن محتوى الأحاديث المروية عن طريق الإمام السجاد عليه السلام ، وتلك المنقولة عنه تشكل مجموعة من النصوص الموثوقة ، التي يطمئن بها المسلم ، فقد تم نقلها من مصدر أمين ، متصل بينابيع الوحي والرسالة ، وفيها ما يسترشد به المسلم ، ويعرف من خلاله مصالحه ، ويحدد واجباته ، ويدفع عنه اليأس ( 1 ) ، مثل روايته المرفوعة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( انتظار الفرج عبادة ) ( 2 ) . فقد يكون الإنسان في مثل تلك الظروف الحرجة المأساوية معرضا للقنوط ولكن بانتظار الفرج وتوقع كشف الغم ، المستتبع للعمل من أجل ذلك والكون على استعداد له ، والإعداد لحصوله ، هو أفضل وسيلة للنجاة من مأزق الياس ، وموت الخمول . ومع القرآن : إن القرآن الكريم ، باعتباره الوحي الإلهي المباشر ، والمصدر الأساسي المقدس بنصه وفصه ، والذي اتفقت كلمة المسلمين على حجيته وتعظيمه وتقديسه ، فهو الحجة عند الجميع ، والفيصل الذي لا يرد حكمه أحد ممن يلتزم بالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيا . ولذلك كانت دعوة أهل البيت عليهم السلام إلى الالتزام به ، والاسترشاد به وقراءته والحفاظ عليه ، دعوة صريحة مؤكدة . وفي الظروف التي عاشها الإمام زين العابدين عليه السلام ، كان الحكام بصدد اجتثاث الحق من جذوره وأصوله ومنها القرآن ، بقتل أعمدته وحفظته ومفسريه ( 3 ) . ‹ صفحة 85 › فكانت الدعوة إلى القرآن من أوجب الواجبات على الأئمة عليهم السلام مضافا إلى ما ذكرنا من قدسية القرآن عند الجميع ، فلم يتمكن الحكام من منع تعظيمه وقرائته والدعوة إليه . فقام الإمام زين العابدين عليه السلام بجهد وافر في هذا المجال : ففي الحديث أنه قال : عليك بالقرآن ، فإن الله خلق الجنة بيده ، لبنة من ذهب ولبنة من فضة ، وجعل ملاطها المسك ، وترابها الزعفران ، وحصاها اللؤلؤ ، وجعل درجاتها على قدر آيات القرآن ، فمن قرأ منها قال له : ( إقرأ وارق ) ومن دخل الجنة لم يكن في الجنة أعلى درجة منه ، ما خلا النبيين والصديقين ( 1 ) . وأسند عن الزهري قال : سمعت علي بن الحسين عليه السلام يقول : آيات القرآن خزائن العلم ، فكلما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها ( 2 ) . وقال عليه السلام : من ختم القرآن بمكة لم يمت حتى يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويرى منزله في الجنة ( 3 ) . وكان يعبر عن كفاية القرآن ، بتعاليمه الروحانية القيمة ، بكونه مؤنسا للإنسان المسلم ، يعني : أن الوحشة إنما هي بالابتعاد عن هذه التعاليم حتى لو عاش الإنسان بين الناس ، فكان يقول : لو مات من ما بين المشرق والمغرب ما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي ( 4 ) . وهكذا يجد الإمام عليه السلام في تعظيم القرآن ، وتخليده في أعماق نفوس الأمة ، كما يسعى في التمجيد له عمليا وبأشكال من التصرفات : فمما يؤثر عنه عليه السلام : أنه كان أحسن الناس صوتا بالقرآن ، حتى : أن السقائين كانوا يمرون ببابه ، فيقفون لاستماع صوته ، يقرأ . . . ( 5 ) . وقال سعيد بن المسيب : إن قراء القرآن لم يذهبوا إلى الحج إذا ذهب علي بن ‹ صفحة 86 › الحسين عليه السلام ، ولم يخرج الناس من مكة حتى يخرج علي بن الحسين عليه السلام ( 1 ) . وفي بعض الأسفار بلغ عدد القراء حسب بعض المصادر : ألف راكب ( 2 ) . وقد كان الإمام السجاد عليه السلام مرجعا في علوم القرآن ومعارفه ، يسأله كبار العلماء عن القرآن : قال الزهري : سألت علي بن الحسين : عن القرآن ؟ فقال : كتاب الله ، وكلامه ( 3 ) . وقد كان الإمام زين العابدين عليه السلام يستفيد من تفسير القرآن في إرشاد الأمة إلى ما يحييهم ، ويطبق مفاهيمه على حياتهم ، ويحاول تنبيههم إلى ما يدور حولهم من قضايا ، وإليك بعض النصوص : روي أنه عليه السلام قال في تفسير قوله تعالى : * ( ولكم في القصاص حياة ) * : [ سورة البقرة ( 2 ) الآية ( 179 ) ] ( ولكم ) يا أمة محمد ( في القصاص حياة ) لأن من هم بالقتل ، فعرف أنه يقتص منه ، فكف لذلك من القتل ، كان حياة للذي هم بقتله ، وحياة لهذا الجافي الذي أراد أن يقتل ، وحياة لغيرهما من الناس : إذا علموا أن القصاص واجب ، ولا يجسرون على القتل مخافة القصاص ( يا أولي الألباب ) أولي العقول ( لعلكم تتقون ) . ثم قال عليه السلام : عباد الله ، هذا قصاص قتلكم لمن تقتلونه في الدنيا ، وتفنون روحه ! أفلا أنبئكم بأعظم من هذا القتل ؟ وما يوجبه الله على قاتله مما هو أعظم من هذا القصاص ؟ قالوا : بلى ، يا بن رسول الله . قال : أعظم من هذا القتل أن يقتله قتلا لا يجبر ، ولا يحيى بعده أبدا ! قالوا : ما هو ؟ قال : أن يضله عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعن ولاية علي بن أبي طالب عليه السلام ، ويسلك به غير سبيل الله ، ويغير به باتباع طريق أعداء علي والقول بإمامتهم ، ودفع علي عن حقه ، وجحد ‹ صفحة 87 › فضله : ، وأن لا يبالي بإعطائه واجب تعظيمه ، فهذا هو القتل الذي هو تخليد المقتول في نار جهنم ، مخلدا أبدا ، فجزاء هذا القتل مثل ذلك : الخلود في نار جهنم ( 1 ) . وكان الإمام زين العابدين عليه السلام كثيرا ما يستشهد بآيات من القرآن ويستدل بها ، وعندما يجد مناسبة يعرج على تطبيق ذلك على الحالة الاجتماعية المتردية التي كان يعيشها المسلمون . ففي الخبر : إنه عليه السلام كان يذكر حال من مسخهم الله قردة من بني إسرائيل ، ويحكي قصتهم ( المذكورة في القرآن ) فلما بلغ آخرها ، قال : إن الله تعالى مسخ أولئك القوم ، لاصطيادهم السمك ! فكيف ترى - عند الله عز وجل - يكون حال من قتل أولاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهتك حريمه ؟ إن الله تعالى ، وإن لم يمسخهم في الدنيا ، فإن المعد لهم من عذاب الآخرة أضعاف أضعاف عذاب المسخ ( 2 ) . إن تصدي الإمام زين العابدين عليه السلام لهذه القضايا ، لا شك أنه أكثر من مجرد تعليم وتفسير للقرآن ، بل هو تطبيق له على الحياة المعاصرة ، وتحريك للأفكار ضد الوضع الفاسد الذي تعيشه الأمة ، ولا ريب أن ذلك يعتبره الحكام تحديا سياسيا يحاسبون عليه . ومن فلتات التاريخ أنه خلد لنا من التراث صفحة من القرآن الكريم ، منسوبة كتابتها إلى خ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 82 › ( 1 ) لقد تحدثنا عن منع الخلفاء من كتابة الحديث وتدوينه ، ومن نقله وروايته ، بتفصيل في كتابنا ( تدوين السنة الشريفة ) المطبوع في قم سنة 1413 ه‍ . ( 2 ) أسد الغاية ، لابن الأثير ( 2 : 472 ) ترجمة سهل الساعدي . ‹ هامش ص 83 › ( 1 ) تهذيب التهذيب ( 7 : 305 ) . ( 2 ) المجدي في الأنساب ( ص 92 ) وتدوين السنة الشريفة ( ص 149 - 152 ) . ( 3 ) المحاسن ، للبرقي ( ص 221 ) ح ( 133 ) . ( 4 ) الكافي ( 3 / 234 ) الحديث 4 ، وبحار الأنوار ( 46 / 142 ) وعوالم العلوم ( ص 85 وص 290 ) . ( 5 ) تذكرة الحفاظ ( 1 / 74 - 75 ) . ( 6 ) قال ذلك الزهري ، كما في تهذيب التهذيب ( 7 / 305 ) وقد كذب الزهري قومه ، كما أنه متهم في ما يقوله في أهل البيت ، لما سيأتي من عمالته للأمويين ، لكن أمثال هذا المخذول قد حرموا أنفسهم من الاستمتاع بعلم أهل البيت عليهم السلام حيث تركوهم وصاروا إلى أصحاب الرأي والاجتهاد في مقابل النص ، فخسروا خسرانا مبينا . ‹ هامش ص 84 › ( 1 ) إن كتابنا هذا يحتوي على مجموعة كبيرة من الأحاديث التي رويت عن الإمام السجاد عليهم السلام ، والتي استشهدنا بها ، تجدها مجموعة في فهرس الأحاديث في آخر الكتاب . ( 2 ) كشف الغمة ( 2 : 101 ) ولاحظ الجامع الصغير ( 1 : 108 ) . ( 3 ) مثل سعيد بن جبير ، ويحيى بن أم الطويل ، وميثم التمار ، وغيرهم من شهداء الفضيلة ، فلاحظ كتب التاريخ لتلك الفترة . ‹ هامش ص 85 › ( 1 ) تفسير البرهان ( 3 : 156 ) . ( 2 ) أصول الكافي ( 2 : 609 ) المحجة البيضاء ( 2 : 215 ) . ( 3 ) المحجة البيضاء ( 2 : 215 ) . ( 4 ) الكافي - الأصول - ( 2 : 602 ) وانظر المحجة البيضاء ( 2 : 215 ) وبحار الأنوار ( 46 : 107 ) . ( 5 ) الكافي ( 2 / 616 ) بحار الأنوار ( 46 : 70 ) ب 5 ح 45 . ولاحظ عوالم العلوم ( ص 135 ) . ‹ هامش ص 86 › ( 1 ) رجال الكشي ( ص 117 ) رقم 187 . ( 2 ) عوالم العلوم ( ص 303 ) . ( 3 ) تاريخ دمشق ، ومختصره لابن منظور ( 17 : 240 ) وسير أعلام النبلاء ( 4 : 396 ) . ‹ هامش ص 87 › ( 1 ) الاحتجاج ( ص 319 ) . ( 2 ) الاحتجاج ( ص 312 ) . ( 3 ) دائرة المعارف الشيعية ( ج 2 ص 66 ) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 87 - 93
ط الإمام زين العابدين عليه السلام . والعجيب أن هذه الصفحة تبدأ بقوله تعالى : * ( القربى ، واليتامى ، والمساكين وابن السبيل ) * ، وتنتهي بآيات الجهاد : قوله تعالى * ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا ) * ( 3 ) . [ سورة الأنفال ( 8 ) الآيات 41 - 45 ] . ‹ صفحة 88 ›

الشيخ حسن العبد الله 12-24-2010 09:54 PM

ثانيا : في مجال الفكر والعقيدة جاء الإسلام ليرسخ الحق بين الناس ، ومن أهم ما هدف إلى تثبيت قواعده وتشييد أركانه هو ( التوحيد الإلهي ) فإلى جانب الاستدلال على ذلك بما يوافق الفطرة والعقل السليمين ، سعى لمحو آثار الوثنية ، وكسر أصنام الجاهلية , لما استتبعت من تحميق الناس ، وتعميق الجهل والذل في نفوسهم على حساب تضخم الثروة عند الطغاة ، وتوغل الفساد في المجتمع الإنساني . ولما كانت الوثنية والصنمية فكرة ناشئة من عقيدة تجسيم الإله وتشبيهه بالخلق ، سعى الإسلام لنفي التجسيم والتشبيه ، ودعا إلى التوحيد في الذات والصفات ، والتنزيه عن كل ما يمت إلى المخلوقات ، كل ذلك بالدلائل والبراهين والآيات البينات . لكن الاتجاه الرجعي تسلط على المسلمين في فترة مظلمة من تاريخ الإسلام ، بدأت بتسنم الحزب الأموي أريكة الخلافة ، وسيطرته من خلالها على ربوع البلاد ورقاب العباد ، أولئك الذين كانوا آخر الناس إسلاما ، وهم مسلمة الفتح ، ولم تنمح من أذهانهم صور الأصنام ، ولم يزل من قلوبهم حب الجاهلية وعباداتها ، فكما كانوا في الجاهلية من أشد الناس تمسكا بالصنمية ورسوم الجاهلية الجهلاء ودعاة الشرك والفجور ، ورعاة الدعارة والعهارة والخمور ، فكذلك وبتلك الشدة أمسوا في الإسلام أعداء التوحيد والتنزيه ومحاربي العفاف والإنصاف . وعندما بلي المسلمون بولاة من هؤلاء ، بدأوا تشويه الصبغة الإسلامية بانتهاك الأعراض والحرمات ، وامتهان الشخصيات والكرامات ، وتشويش الأفكار والمعتقدات ، وتزييف الوجدان وإثارة الأضغان ، وتعميق العداء والبغضاء ، وتعميم الجور والعدوان . عقيدة الجبر : وكان من أخطر ما روجوه بين الأمة وأكدوا على إشاعته هو فكرة ( الجبر الإلهي ) بهدف التمكن من السلطة التامة على مصير الناس ، والهيمنة على الأفكار بعد الأجسام . ‹ صفحة 89 › فإن الأمة إذا اعتقدت بالجبر ، فذلك يعني : أن كل ما يجري عليها فهو من الله وبإذنه ، فما يقوم به الخليفة من فساد وظلم وجور وقتل ونهب وغصب ، فهو من الله - تعالى عن ذلك - استكانت الأمة للظالم ولتعدياته ، ولم تحاول أن تتخلص من سيطرته ، ولا دفع عدوانه ، بل لم تفكر في الخلاص منه ، لأن ذلك يكون مخالفة لإرادة الله ومشيئته ، فالخليفة والأمير والحاكم والوالي إنما ينفذون إرادة الله ، وهم يد الله على عباده ! فكيف يرجى من أمة كهذه أن تقوم بوجه سلطة الظالم واعتداءاته وتجاوزاته ( 1 ) . لقد أظهر الأمويون عنادهم للإسلام حتى في مسائل الدين ، ومن عندهم ظهرت الفتاوي في الشام بخلاف ما في العراق ، كما ظهر القول بالجبر في أصول الدين . وأول ما انتحله معاوية من التفرقة - بين المسلمين - هو القول بالجبر ، فقد كان هو أول من أظهره . قال القاضي عبد الجبار في ( المغني في أبواب العدل والتوحيد ) : أظهر معاوية أن ما يأتيه بقضاء الله ومن خلقه ، ليجعله عذرا في ما يأتيه ويوهم أنه مصيب فيه ، وأن الله جعله إماما وولاه الأمر ، وفشا ذلك في ملوك بني أمية ( 2 ) . وكان الأمويون يقولون بالجبر ( 3 ) . ولقد قاوم أئمة أهل البيت عليهم السلام فكرة الجبر بكل قوة ووضوح منذ زمان أمير المؤمنين عليه السلام ( 4 ) . ولكن لما استفحل أمر بني أمية ، وملكوا أنفاس الناس ، وتمكنوا من عقولهم وأفكارهم ، انفرد معاوية في الساحة ، وغسل الأدمغة بفعل علماء الزور ووعاظ السلاطين . فكان معاوية يقول في خطبه : ( لو لم يرني الله أهلا لهذا الأمر ما تركني وإياه ولو ‹ صفحة 90 › كره الله تعالى ما نحن فيه لغيره ) . وقال معاوية في بعض خطبه : ( أنا عامل من عمال الله أعطي من أعطاه الله وأمنع من منعه الله ولو كره الله أمرا لغيره ) . فأنكر عليه عبادة بن الصامت وغيره من الصحابة . نقله ابن المرتضى وقال : هذا صريح الجبر ( 1 ) . وهذا هو الذي شدد قبضة الأمويين على البلاد والعباد ، ومكنهم من قتل أبي عبد الله الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكل جرأة ، ومن دون نكير ! وقد أظهر يزيد ، أن الحسين عليه السلام إنما قتله الله ! فأعلن ذلك في مجلسه وأمام الناس . لكن الإمام السجاد عليه السلام لم يترك ذلك يمر بلا رد ، فانبرى له وقال ليزيد : قتل أبي الناس ( 2 ) . وقبل ذلك في الكوفة قال عبيد الله : أليس قد قتل الله علي بن الحسين ؟ فقال الإمام عليه السلام * ( الله يتوفى الأنفس حين موتها ) * [ سورة الزمر ( 39 ) الآية ( 42 ) ] . فغضب عبيد الله وقال : وبك جرأة لجوابي ، وفيك بقية للرد علي ، اذهبوا به فاضربوا عنقه . ثم صعد المنبر ، وقال : الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله ونصر أمير المؤمنين وحزبه ( 3 ) . إن الموقف كان خطرا جدا ، فالطاغية في عتوه ، ونشوة الانتصار تغمره ، فالرد عليه في مثل هذه الحالة يعني منازعته سلطانه . ولكن الإمام السجاد عليه السلام وهو أسير ، يعاني آلام الجرح والمرض ، لم يتركه يلحد في دين الله ، ويمرر فكرة الجبر أمامه ، على الناس البسطاء ، الفارغين من المعارف ، التي نص عليها القرآن بوضوح . وليس غرضنا من سرد هذه الأخبار إلا نقل رد الإمام عليه السلام على مزاعم الحكام ‹ صفحة 91 › بنسبة القتل إلى الله ، بينما هو من فعل الناس ، والتذكير بالفرق بين الوفاة للأنفس واسترجاعها الذي نسب في القرآن إلى الله حين حلول الأجل والموت حتف الأنف ، وبين القتل الذي هو إزهاق الروح من قبل القاتل قبل حلول الموت المذكور . إن تحدي الحكام وفي مجالسهم ، وبهذه الصراحة ينبئ عن شجاعة وبطولة ، وهو تحد للسلطة أكثر من أن يكون ردا على انحراف في العقيدة فقط . وفي حديث رواه الزهري - من كبار علماء البلاط الأموي - أجاب الإمام زين العابدين عليه السلام عن هذا السؤال : أبقدر يصيب الناس ما أصابهم ، أم بعمل ؟ أجاب عليه السلام بقوله : إن القدر والعمل بمنزلة الروح والجسد . . . ولله فيه العون لعباده الصالحين . ثم قال عليه السلام : ألا ، من أجور الناس من رأى جوره عدلا ، وعدل المهتدي جورا ( 1 ) . وعقيدة التشبيه والتجسيم : وقد تجرأ أعداء الإسلام - بعد سيطرتهم على الحكم - على المساس بأساس العقيدة الإسلامية ، وهو التوحيد الإلهي ، وذلك بإدخال شبه التجسيم والتشبيه في أذهان العامة ، لإبعادهم عن الحق ، وجرهم إلى صنمية الجاهلية . ولقد استغل الأعداء جهل الناس ، وبعدهم عن المعارف ، حتى اللغة العربية ! فموهوا عليهم النصوص المحتوية على ألفاظ الأعضاء ، كاليد والعين ، مضافة في ظاهرها إلى الله تعالى ، وتفسيرها بمعانيها المعروفة عند البشر ، بينما هي مجازات مألوفة عند فصحاء العرب في شعرهم ونثرهم ، يعبرون باليد عن القوة والقدرة ، وبالعين عن البصيرة والتدبير ، وهكذا . . . وقد قاوم الإسلام منذ البداية هذه الأفكار المنافية للتوحيد والتنزيه ، وقام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الأطهار بمقاومتها وإبطال شبهها ، وفضح أغراض ناشريها ودعاتها . وفي عهد الإمام السجاد عليه السلام ، وبعد أن استشرى الوباء الأموي بالسيطرة التامة ، ‹ صفحة 92 › كان أمر هؤلاء الملحدين قد استفحل ، وتجاسروا على الإعلان عن هذه الأفكار بكل وقاحة ، في المجالس العامة ، حتى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فكانت مهمة الإمام السجاد عليه السلام حساسة جدا ، لكونه ممثلا لأهل البيت عليهم السلام ، بل الرجل الوحيد ذا الارتباط الوثيق بمصادر المعرفة الإسلامية بأقرب الطرق وأوثقها ، وبأصح الأسانيد ، مصحوبا بالإخلاص لهذا الدين وأهله ، وعمق التفكير وقوته ، وبالشكل الذي ليس لأحد إنكار ذلك أو معارضته . ومع ما كان عليه الإمام السجاد عليه السلام من قلة الناصر ، فقد وقف أمام هذا التيار الإلحادي الهدام ، وأقام بأدلته وبياناته سدا منيعا في وجه إحياء الوثنية من جديد ! فقام الإمام بعرض النصوص الواضحة التعبير عن الحق ، والناصعة الدلالة على التوحيد والتنزيه ، مدعومة بقوة الاستدلال العقلي ، وكشف عن التصور الإسلامي الصحيح ، وشهر سيف الحق والعلم والعقل على تلك الشبه الباطلة : ولنقرأ أمثلة من تلك النصوص : جاء في الحديث أن الإمام زين العابدين عليه السلام كان في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم ، إذ سمع قوما يشبهون الله بخلقه ، ففزع لذلك ، وارتاع له ، ونهض حتى أتى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فوقف عنده ، ورفع صوته يدعو ربه ، فقال في دعائه : ( إلهي بدت قدرتك ، ولم تبد هيبة جلالك ، فجهلوك ، وقدروك بالتقدير على غير ما أنت به مشبهوك . وأنا برئ - يا إلهي - من الذين بالتشبيه طلبوك ، ليس كمثلك شي - يا إلهي - ولن يدركوك . فظاهر ما بهم من نعمة دليلهم عليك ، لو عرفوك . وفي خلقك - يا إلهي - مندوحة عن أن يتأولوك . بل ساووك بخلقك ، فمن ثم لم يعرفوك . واتخذوا بعض آياتك ربا ، فبذلك وصفوك . فتعاليت - يا إلهي - عما به المشبهون نعتوك ) ( 1 ) . ‹ صفحة 93 › فوجود الإمام عليه السلام في المسجد النبوي ، وإظهاره الفزع من ذلك التشبيه ، وارتياعه لذلك الكفر المعلن ، ونهوضه ، والتجاؤه إلى القبر الشريف ، ورفعه صوته بالدعاء . . . كل ذلك ، الذي جلب انتباه الراوي ، ولا بد أنه كان واضحا للجميع ، إعلان منه عليه السلام للاستنكار على ذلك القول ، وأولئك القوم الذين تعمدوا الحضور في المسجد والتجرؤ على إعلان ذلك الإلحاد والكفر . وهو تحد صارخ من الإمام عليه السلام للسياسة التي انتهجتها الدولة وكانت وراءها بلا ريب ، وإلا ، فمن يجرؤ على إعلان هذه الفكرة المنافية للتوحيد لولا دعم الحكومة ، ولو بالسكوت ! إن قيام الإمام السجاد عليه السلام بهذه المعارضة الصريحة وبهذا الوضوح يعطي للمواجهة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 87 › ( 1 ) الاحتجاج ( ص 319 ) . ( 2 ) الاحتجاج ( ص 312 ) . ( 3 ) دائرة المعارف الشيعية ( ج 2 ص 66 ) . ‹ هامش ص 89 › ( 1 ) لاحظ رسائل العدل والتوحيد ( ص 85 - 86 ) . ( 2 ) لاحظ رسائل العدل والتوحيد ( 2 : 46 ) . ( 3 ) تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام ، لأبي ريان ( ص 148 - 150 ) . ( 4 ) لاحظ الاحتجاج ( ص 208 ) في احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام . ‹ هامش ص 90 › ( 1 ) المنية والأمل ( ص 86 ) . ( 2 ) الاحتجاج ( 311 ) . ( 3 ) الإرشاد للمفيد ( ص 244 ) ولاحظ صدره في تاريخ دمشق ( الحديث 25 ) . ‹ هامش ص 91 › ( 1 ) التوحيد للصدوق ( ص 366 ) . ‹ هامش ص 92 › ( 1 ) كشف الغمة ( 2 : 89 ) وانظر بلاغة الإمام علي بن الحسين عليه السلام ( ص 17 ) وقد رواه الصدوق في أماليه ( ص 487 ) المجلس ( 89 ) موقوفا على الرضا عليه السلام ، فلاحظ . ‹ هامش ص 93 › ( 1 ) لاحظ الفصل لابن حزم ( 4 : 204 ) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 93 - 99
بعدا آخر ، أكثر من مجرد البحث العلمي ، والنقاش العقيدي والفكري . إنه بعد التحدي للدولة التي كانت تروج لفكرة التجسيم والتشبيه ، وتفسح المجال للإعلان بها في مكان مقدس مثل الحرم النبوي الشريف ، في قاعدة الإسلام ، وعاصمته العلمية ، المدينة المنورة ! ! ومهزلة الإرجاء : الإرجاء ، بمعنى عدم الحكم باسم ( الكفر ) على من آمن بالله ، في ما لو أذنب ما يوجب ذلك ، وأن حكما مثل هذا موكول إلى الله تعالى ، ومرجأ إلى يوم القيامة ، وأن الذنوب - مهما كانت - والمبادئ السياسية مهما كانت ، لا تخرج المسلم عن اسم الإيمان ، ولا تمنع من دخوله الجنة . وكان الملتزمون بالإرجاء ، يتغاضون عما يقوم به الحكام والسلاطين مهما كانت أفعالهم مخالفة لأحكام الإسلام في آيات قرآنه ونصوص كتابه وسنة رسوله . بل كان منهم من يقول : إن الإيمان هو مجرد القول باللسان ، وإن علم من القائل الاعتقاد بقلبه بالكفر ، فلا يسمى كافرا . ومنهم من يقول : إن الإيمان هو عقد القلب ، وإن أعلن الكفر بلسانه فلا يسمى كافرا ( 1 ) . ‹ صفحة 94 › وهذه المبادئ - مهما كان منشؤها - كانت ولا زالت تخدم الحكام الجائرين المبتعدين عن الإسلام في كل أعمالهم وتصرفاتهم ، لأن أصحاب هذه المبادئ كانوا - ولا يزالون - يرون أن مهادنة هؤلاء الحكام صحيحة وغير منافية للشرع وللتدين بالإسلام . فكانت - كما يقول أحمد أمين - : هذه المبادئ تخدم بني أمية - ولو بطريق غير مباشر - وأصحابها كانوا يرون أن مهادنة بني أمية صحيحة ، وأن خلفاءهم مؤمنون ، لا يصح الخروج عليهم . فكان أن الأمويين لم يتعرضوا لهم بسوء ، كما تعرضوا للمعتزلة والخوارج والشيعة ( 1 ) . بل أصبح الإرجاء - كما نقل الجاحظ عن المأمون : - دين الملوك ( 2 ) . وهذه المزعومة - الإرجاء - باطلة أساسا ، لدلالة النصوص الواضحة على أن العمل - فعلا وتركا - له أثر مباشر في صدق أسماء ( الإيمان والكفر ) . ولذلك أعلن أئمة المسلمين بصراحة : أن الإيمان قول باللسان ، واعتقاد بالجنان ، وعمل بالأركان . فمن خالف ما ثبت أنه من الدين ضرورة فهو محكوم باسم الكفر ، وتجري عليه أحكام هذا الاسم ، سواء أنكره بلسانه ، أو بقلبه ، أو بعمله ، كقاتل النفس المحترمة وتارك الصلاة ، مثلا . وفي قبال مخالفات الحكام الظالمين ، المعلنة والمخفية ، قاوم المسلمون بكل شدة ، وحاسبوهم بكل صرامة ، حتى قتل عثمان - وهو خليفة - من أجل بعض مخالفاته الواضحة . لكن ، لما تربع بنو أمية على الحكم ، بدأوا يحرفون عقيدة الناس بترويج كفرهم ، وقتل المؤمنين العارفين بالحقائق ، وإجراء سياسة التطميع والتجويع ، وغسل الأدمغة والتحميق ، مستمدين بوعاظ السلاطين من أمثال الزهري : فقد ورد في الأثر أن هشام بن عبد الملك سأل الزهري قال : حدثنا بحديث ‹ صفحة 95 › النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ، وإن زنا وإن سرق ( 1 ) . فهشام حافظ للحديث ، لكنه يريد من الزهري تقريرا عليه وتصديقا به ، وكأنه يقول له : إن مثل هذا الحديث يعجبنا ويفيدنا فاروه لنا . ولم يكذب الزهري هذا الحديث المجعول من قبل المرجئة ، وإنما قال لهشام : أين يذهب بك ، يا أمير المؤمنين ! كان هذا قبل الأمر والنهي . لكن إذا كان قبل الأمر والنهي فلماذا يذكر الزنا والسرقة ، أو هما كانتا محرمتين ! ؟ فعاد أمر الأمة إلى أن لم ير المضحون والمخلصون ، وفي طليعتهم أهل البيت عليهم السلام إلا أن ينهضوا في طلب الإصلاح . وقام الإمام الحسين عليه السلام بالتضحية الكبرى في كربلاء ، لإنقاذ الإسلام مما ابتلي به من تدابير خطرة ، ومؤامرات لئيمة دبرها بنو أمية . وقد أدت تلك التضحية العظيمة ، إلى فضح حكام بني أمية ، حيث إن عملهم الظالم ذلك ، الذي لم يجدوا في الأمة منكرا له ولا نكيرا عليه ، هون عليهم الإقدام على أعمال فظيعة أخرى بعلانية ووقاحة ، بشكل لم يبق مبرر لإطلاق اسم الإسلام والإيمان عليهم ، ولذلك نجد أن الذين أعلنوا عن ثورة المدينة قبيل وقعة الحرة ، كانت دعواهم : ( أن يزيد لرجل ليس له دين ) ( 2 ) والأمويون تأكيدا على كفرهم وخروجهم على كل المقدسات ، استباحوا مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وحرمه ، وقتلوا آلاف الناس ، وفيهم جمع من أبناء صحابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وهتكوا الأعراض وانتهبوا الأموال ( 3 ) . وعقبوا ذلك بالهجوم على الكعبة والمسجد الحرام وحرم الله الآمن ، فأحرقوها وهتكوا حرمتها ، وسفكوا الدماء فيها ، ولم يرقبوا في شي عملوه أيام حكمهم الدموي كرامة لأحد ، ولا حرمة لشئ مقدس . ‹ صفحة 96 › والمرجئة - مع ذلك - يقولون في الأمويين إنهم الحكام الذين تجب طاعتهم ، وإنهم مؤمنون لا يجوز الحكم عليهم بالكفر ، ولا لعنهم ، ولا التعرض لهم ولا الخروج عليهم ! إن هذا الانحراف الذي عرض لأمة الإسلام ، كان ردة خفية تمرر باسم الإسلام وعلى يد الخليفة والمجرمين الممالئين له . فكانت جهود الإمام السجاد عليه السلام هي التي أعقبت إحياء الروح الإسلامية واستتبعت الصحوة للمسلمين ، فرص الصفوف ، فتمكن ابنه المجاهد العظيم زيد بن علي عليه السلام من إطلاق الثورة ضدهم . وتلك التعاليم السجادية هي التي جعلت أمر كفر الأمويين وبطلان حكمهم ، أوضح من الشمس ، وألجأت أبا حنيفة المتهم بالإرجاء ( 1 ) أن يرى ولاة بني أمية مخالفين لتعاليم الدين وأعلن وأظهر البغض والكراهية لدولتهم ، وساهم في حركة زيد الشهيد ، وناصر أهل البيت بالمال والعدة ، وكان يفتي - سرا - بوجوب نصرة زيد وحمل المال إليه والخروج معه على اللص المتغلب المتسمي ب‍ ( الإمام والخليفة ) ( 2 ) . وفي الإمامة والولاية : . كانت الإمامة في نظام الدولة الإسلامية ، أعلى المناصب الحكومية ، ولذا كان الحكام يسمون أنفسهم أئمة للناس ، وأمراء للمؤمنين ، بلا منازع . ولا يدعي أحد غير الحاكم ، لنفسه منصب الإمامة إلا إذا لم يعترف بالحاكم ولا حكومته : ومعنى هذا الادعاء معارضته للنظام ولمقام الخليفة نفسه . والإمام السجاد عليه السلام قد أعلن عن إمامة نفسه بكل وضوح وصراحة ومن دون أية تقية وخفاء . ولعل لجوءه عليه السلام إلى هذا الأسلوب المكشوف كان من أجل أن بني أمية بلغ أمر فسادهم وخروجهم عن الإسلام ، وعدم صلاحيتهم للحكم على المسلمين وإدارة ‹ صفحة 97 › البلاد ، فضلا عن الإمامة ، حدا من الوضوح لم يمكن ستره على أحد . فكان من اللازم الإعلان عن إمامة السجاد عليه السلام كي لا يبقى هذا المنصب شاغرا ، وإن لم تكن الإمامة الحقة حاكمة ظاهرا . ومهما يكن ، فإن خطورة إعلان الإمام السجاد عليه السلام عن إمامة نفسه وأهل بيته ، لا تخفى على أحد ممن عرف جور بني أمية وطغيانهم وقسوتهم في مواجهة المعارضين . وقد تعددت الأحاديث الناقلة لهذا الإعلان ، حسب تعدد المناسبات ، والظروف : 1 - ففي الحديث الذي أورده ابن عساكر : قال أبو المنهال نصر بن أوس الطائي : رأيت علي بن الحسين ، وله شعر طويل ، فقال : إلى من يذهب الناس ؟ قال : قلت : يذهبون هاهنا وهاهنا ! قال : قل لهم : يجيئون إلي ( 1 ) . 2 - قال له أبو خالد الكابلي : يا مولاي ! أخبرني كم يكون الأئمة بعدك ؟ فقال : ثمانية ، لأن الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اثنا عشر إماما ، عدد الأسباط ، ثلاثة من الماضين ، وأنا الرابع ، وثمانية من ولدي ، أئمة أبرار ، من أحبنا وعمل بأمرنا كان في السنام الأعلى ، ومن أبغضنا أو رد واحدا منا فهو كافر بالله وبآياته ( 2 ) . 3 - وقال عليه السلام : نحن أئمة المسلمين ، وحجج الله على العالمين ، وسادة المؤمنين ، وقادة الغر المحجلين ، وموالي المؤمنين ، ونحن أمان أهل الأرض ، كما أن النجوم أمان لأهل السماء . . . ولو ما في الأرض منا لساخت بأهلها ، ولم تخل الأرض - منذ خلق الله آدم - من حجة لله فيها ، ظاهر مشهور أو غائب مستور ، ولا تخلو ، إلى أن تقوم الساعة ، من حجة لله فيها ، ولولا ذلك لم يعبد الله ( 3 ) . 4 - وقال عليه السلام : نحن أفراط الأنبياء ، وأبناء الأوصياء ، ونحن خلفاء ‹ صفحة 98 › الأرض ، ونحن أولى الناس بالله ، ونحن أولى الناس بدين الله ( 1 ) . 5 - وكان يقول في دعائه يوم عرفة : اللهم ! إنك أيدت دينك في كل أوان بإمام أقمته علما لعبادك ومنارا في بلادك بعد أن وصلت حبله بحبلك ، وجعلته الذريعة إلى رضوانك ، وافترضت طاعته ، وحذرت معصيته ، وأمرت بامتثال أوامره ، والانتهاء عند نهيه ، وألا يتقدمه متقدم ، ولا يتأخر عنه متأخر ، فهو عصمة اللائذين ، وكهف المؤمنين ، وعروة المتمسكين ، وبهاء العالمين . اللهم فأوزع لوليك شكر ما أنعمت به عليه ، وأوزعنا مثله فيه ، وآته من لدنك سلطانا نصيرا ، وافتح له فتحا يسيرا ، وأعنه بركنك الأعز . . . وأقم به كتابك وحدودك وشرائعك وسنن رسولك صلواتك - اللهم - عليه وآله . وأحي به ما أماته الظالمون من معالم دينك ، وأجل به صدأ الجور عن طريقتك ، وابن به الضراء من سبيلك ، وأزل به الناكبين عن صراطك ، وامحق به بغاة قصدك عوجا ، وألن جانبه لأوليائك ، وابسط يده على أعدائك ( 2 ) . ففي يوم عرفة ، وفي موقف عرفات ، حيث تتجه القلوب إلى الله بلهفة ، وحيث الأنظار شاخصة إلى ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والآذان صاغية إلى بقية العترة ، لتسمع دعاءه في ذلك اليوم الشريف ، وذلك الموقف المنيف ، يدعو بهذه الكلمات ليعرف المسلمين بما يجب أن يكون عليه الإمام الحق من صفات ، وما عليه وله من حقوق وواجبات . ولا يرتاب المتأمل : أن في عرض مثل هذه الأوصاف والواجبات - التي يبتعد عنها الحكام المدعون للإمامة أشواطا ومسافات طويلة - يعد تعريضا بهم ، وتحديا لوجودهم . وأن الإمام السجاد عليه السلام لما كان يعرف الإمامة بهذا الشكل ، فهو - بلا ريب ‹ صفحة 99 › يستبعد عنها كل أدعياء الإمامة من غير ما لياقة ، فضلا عن الاستحقاق . فأين أولئك المغمورون في الرذيلة والظلم والجهل بالدين ، بل المعارضون له عقائ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 93 › ( 1 ) لاحظ الفصل لابن حزم ( 4 : 204 ) . ‹ هامش ص 94 › ( 1 ) ضحى الإسلام ( 3 : 324 ) . ( 2 ) الاعتبار وسلوة العارفين ( ص 141 ) . ‹ هامش ص 95 › ( 1 ) الاعتبار وسلوة العارفين ( ص 141 ) . ( 2 ) أيام العرب في الإسلام ( ص 420 ) . ( 3 ) انظر كتب التاريخ في حوادث سنة ( 63 ه‍ ) وتاريخ المدينة المنورة وترجمة مسلم بن عقبة ، وعبد الله بن الغسيل . ‹ هامش ص 96 › ( 1 ) لاحظ تاريخ بغداد ( ج 13 ) وانظر الكنى والألقاب ( 1 / 52 ) . ( 2 ) لاحظ ضحى الإسلام ، لأحمد أمين ( 3 : 274 ) . ‹ هامش ص 97 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 21 ) ومختصره لابن منظور ( 17 / 531 ) . ( 2 ) كفاية الأثر للخزاز ( ص 236 - 237 ) . ( 3 ) أمالي الصدوق ( ص 112 ) الاحتجاج ( ص 317 ) . ‹ هامش ص 98 › ( 1 ) بلاغة علي بن الحسين ( ص 60 ) . ( 2 ) الصحيفة السجادية ، الدعاء رقم ( 47 ) . ‹ هامش ص 99 › ( 1 ) الصحيفة السجادية الدعاء رقم ( 48 ) . ( 2 ) كفاية الأثر للخزاز ( ص 240 - 241 ) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 99 - 104
ئديا وعمليا ، أين هم من هذه الإمامة المقدسة ! ؟ 6 - وكان يقول في دعائه ليوم الجمعة ، والأضحى : اللهم : إن هذا المقام لخلفائك ، وأصفيائك ، ومواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها ، قد ابتزوها ، وأنت المقدر لذلك لا يغالب أمرك . حتى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين ، مقهورين ، مبتزين ، يرون حكمك مبدلا ، وكتابك منبوذا ، وفرائضك محرفة عن جهة إشراعك ، وسنن نبيك متروكة . اللهم : العن أعداءهم من الأولين والآخرين ، ومن رضي بفعالهم وأشياعهم ، وأتباعهم ( 1 ) . ويوصي الإمام إلى ولده محمد الباقر فيقول : بني : إني جعلتك خليفتي من بعدي ، لا يدعيها في ما بيني وبينك أحد إلا قلده الله يوم القيامة طوقا من النار ( 2 ) . بل ، أعلن خلافة ولده الباقر وإمامته ، للزهري ، وهو من علماء البلاط الأموي ، في ما روي عنه ، قال : دخلت على علي بن الحسين عليه السلام في مرضه الذي توفي فيه : فقلت : يا بن رسول الله ، إن كان أمر الله ، ما لا بد لنا منه ، فإلى من نختلف بعدك ؟ فقال عليه السلام : يا أبا عبد الله ، إلى ابني هذا - وأشار إلى محمد الباقر عليه السلام - فإنه وصيي ، ووارثي ، وعيبة علمي وهو معدن العلم وباقره . قال الزهري : قلت : هلا أوصيت إلى أكبر ولدك ؟ قال عليه السلام : يا أبا عبد الله ، ليست الإمامة بالكبر والصغر ، هكذا عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهكذا وجدناه مكتوبا في اللوح والصحيفة . ‹ صفحة 100 › قال الزهري : قلت : يا بن رسول الله ، كم عهد إليكم نبيكم أن يكون الأوصياء بعده ؟ قال عليه السلام : وجدناه في الصحيفة واللوح ( اثنا عشر اسما ) مكتوبة إمامتهم . ثم قال عليه السلام : يخرج من صلب محمد ابني سبعة من الأوصياء فيهم ( المهدي ) ( 1 ) . إلى غير ذلك من الآثار الواردة في هذا الباب . والمهم في الأمر أن الإمام السجاد عليه السلام بصراحته هذه ، وإعلانه عن أهم ما يرتبط باستمرار العقيدة ودوامها ، تمكن من تثبيت الإمامة بعد أن تعرض التشيع لأوحش الحملات في ذلك التأريخ ، فأدت بالعقيدة إلى تضعضع لم يسبق له مثيل ! كما أدت إلى يأس في النفوس ، وتمزق بين صفوف الشيعة بما لا يتصور ! فكانت مواقف الإمام السجاد عليه السلام هذه ، الواضحة ، والجريئة ، والمكررة ، سببا للملمة الكوادر من جديد ، ورص الصفوف ثانية ، وتكريس الجهود المكثفة ، واستعادة القوى المهدورة ، والتركيز على ترسيخ القواعد الأصلية من أن تحرف أو يشوبها التشويه لتكوين الأرضية الصالحة لبذر علوم آل محمد على أيدي الأئمة لا سيما الباقر والصادق عليهما السلام . إثارة خلافة الشيخين : إن بني أمية ، الذين أحدثوا مذبحة كربلاء ، ومجزرة الحرة ، ومأساة عين الوردة ، لم يقنعوا بتصفية التشيع جسديا ، بقتل الأعداد الكبيرة من أنصار أهل البيت عليهم السلام ، ومعهم الأعيان والرؤساء ، بمن فيهم الإمام الحسين عليه السلام ، وإنما حاولوا - أيضا - القضاء على التشيع فكريا وحضاريا ، واتبعوا سبل الدعاية المغرضة ، وإثارة الناس الغوغاء على كل ما يمت إلى أهل البيت عليهم السلام من فكر وتراث وشعار ، حتى حاربوا أسماءهم ، فكان من يتسمى بها مهددا . ومن أخبث أساليبهم بث بذور الفرقة والشقاق بين المسلمين ، ليتمكنوا من القضاء على الإسلام كله ، ومن خلال ضرب المذاهب بعضها ببعض ، ومما ركزوا عليه في هذه ‹ صفحة 101 › السبيل هو إثارة موضوع ( خلافة الشيخين : أبي بكر وعمر ) اللذين حكما الأمة باسم الخلافة فترة غير قصيرة ، وأصبحت خلافتهما مثارا للبحث بين كل من الشيعة وأهل السنة . فالخلافة والإمامة ، يراها الشيعة حقا لأئمة أهل البيت عليهم السلام بالنص من النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا ينطق إلا عن الوحي الإلهي ، وقد التزموا بهذا على أنه واحد من أصول مذهبهم ومعتقدهم ، وهو المميز لهم عن أهل السنة ، الملتزمين بخلافة من استولى على أريكة الحكم ، كما حدث بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ حكم أبو بكر ، ثم عمر بدعوى وأن ذلك تم برضا من الناس الحاضرين ، وأن ذلك كاف في تحقق الحق لهما في الخلافة ، وهو الدليل على فضلهما ومنزلتهما عند المسلمين الذين سكتوا على ذلك . ومن الواضح - تاريخيا - أن الجميع لم يحضروا مجلس البيعة للشيخين في سقيفة بني ساعدة . ومجرد السكوت في مثل هذا الموقف لا يدل على الرضا ، لاحتمال الخوف ، والمداراة ، والغفلة ، أو الطمع في الحكم والمنصب . مع حصول الاعتراض العلني قولا وفعلا من بعض كبار الصحابة . وتعيين بعض الناس ورضاهم وسكوتهم ، أمور إن دلت على الفضل والمنزلة عندهم ، فهي لا تدل على الرضا عند الله ورسوله وجميع المؤمنين ! ومع وجود هذه المفارقات ، فإن في المسلمين من لم تثبت عندهم خلافة الشيخين بطريق من الشرع الكريم ، فلذا رفضوا هذا الموقف ، وإن وقع ، والتزموا بما هو الحق ، وإن لم يقع ! ولقد جوبه هذا الالتزام بالاستنكار العنيف من قبل أهل السنة فاعتبروه ( كفرا ) وأحلوا دماء ( الرافضة ) بزعمهم مع اعترافهم بأن التأويل يمنع من التكفير ، وأن الحدود تدرء بالشبهات ! ! وكان الأمويون يثيرون هذا الخلاف لاصطياد أغراضهم من تعكير الماء ، بين فئات المسلمين . ‹ صفحة 102 › فكان موقف الإمام السجاد عليه السلام مقاومة ذلك بحكمة وحنكة ، حتى صير أمره إلى الإحباط . فلا بد أن يعرف : أن قضية الإمامة وثبوتها لأئمة أهل البيت عليهم السلام ، وخلافة الخلفاء وحقهم في الحكم ، قضية أدق من أن يبت فيها بمجرد الرفض واللعن والتكفير والطرد ، والقذف والسب ، أو إثارة الضجيج والعجيج ، وكيل التهم والتقبيح ، والتنفير والتهجير ، والاستهزاء والتهجين . بل هي عند العقلاء قضية قناعة واعتقاد وأرقام ونصوص وحقوق وصفات وفضائل . وهي عند أهل البيت عليهم السلام قضية هداية وإيمان ، محورها ( الحق ) الذي أمرنا الله بالتواصي به ، والصبر عليه . وإذا تصدى لها أئمة أهل البيت عليهم السلام ، وتعرضوا لها ، وطالبوا بها فليس لحاجة في أنفسهم إليها أو إلى مآربها ، بل إنما من أجل أولئك الناس أنفسهم ، وهدايتهم إلى ( الحق ) المنشود من كل الرسالات الإلهية . فقد كان الإمام السجاد عليه السلام يقول : ما ندري ، كيف نصنع بالناس ؟ ! إن حدثناهم بما سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضحكوا ، وإن سكتنا ، لم يسعنا . . . ( 1 ) . وكان الإمام الباقر عليه السلام يقول : بلية الناس - علينا - عظيمة ، إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا ، وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا ( 2 ) . وبهذا المنطق ، الواقعي ، المتين ، الحنون ، الواضح ، دخل أهل البيت عليهم السلام في موضوع الخلافة والإمامة ، وحكموا عليها ولها . وإذا كان هذا هو المنطلق ، فلا بد أن يكون المسير على طريق مصلحة الناس ، وهم المسلمون في كل عصر ومصر ، ومن أجل الحفاظ على دينهم الحق وهو الإسلام المحمدي الخالص . وعلى هذا الأساس ، لم يسمح الأئمة عليهم السلام للغوغاء ، أن يتدخلوا في هذه القضية - الخلافة - كي لا يغرقوا في غمارها ، ولا يصبحوا ألعوبة في أيدي الدهاة ‹ صفحة 103 › الماكرين من حكام الجور والضلالة ، بإثارة الشغب والفتنة بين طوائف الشعب ، على حساب قضية ( الخلافة ) . فإن الغوغاء لا يدخلون في أية قضية على أساس المنطق السليم ، ولا من منطلق قويم ، ولا يمشون على الصراط المستقيم ، بل على طبيعتهم في الجدل العقيم ، وعلى طريقتهم في القذف واللعن والطرد ، وهي بالنسبة إليهم البداية المحسوبة ، والنهاية المطلوبة . وليس الهدف عند الأئمة من أهل البيت عليهم السلام إلا ( الحق ) وأن يتبين الرشد من الغي . وقد كان الأمويون يثيرون القضية على مستوى العوام الطغام ، والغوغاء الهوجاء ، ويهدفون من ذلك القضاء على وحدة المسلمين ، باتهام أهل البيت وأتباعهم ، وهم يمثلون أقوى الخطوط المعارضة لحكمهم . ولقد كان موقف الإمام السجاد عليه السلام في إحباط هذه الخطط الأموية الجهنمية ، شجاعا ، وصريحا ، ومدروسا : فهو عليه السلام لما سئل عن منزلة الشيخين عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أشار - بيده - إلى القبر - قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم - ثم قال : بمنزلتهما منه الساعة ( 1 ) وفي نص آخر : كمنزلتهما منه اليوم ، وهما ضجيعاه ( 2 ) . فمثير السؤال ، إنما أراد أن يعلن الإمام عن رأيه في الشيخين من حيث الفضل والمقام والرتبة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ ولكن الإمام السجاد عليه السلام لم يفسح له المجال في إثارته المريبة ، فأجابه عن موضعهما من حيث المكان والمنزل والمدفن ، من دون أن يتعدى في الإجابة الحقيقية الظاهرة ، أو يتجاوز الحق المفروض ، فهما - الشيخان - كانا قريبين - جسديا - كما هما في قبريهما - الآن - بالنسبة إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لكن هل هذا كرامة لهما ، وقد دفنا في ما لم يملكا حق الدفن فيه ؟ ! ‹ صفحة 104 › ويقول لمثير آخر : إذهب ، فأحب أبا بكر وعمر ، وتولهما ، فما كان من إثم ففي عنقي ( 1 ) . وبمثل هذه القوة ، يبعد الإمام عوام الناس عن التوجه إلى هذه القضية الحساسة ، في ميدان الصراع ذلك اليوم ، فقد كانت أصول الدين ، وقواعده ، وفروعه ، وأحكامه الأساسية ، مهددة ، يتهددها الطغيان الأموي ، وكبار الصحابة ، وعلماء الأمة ، يذبحون كل صباح ومساء ، فكان الإعراض عن القضايا الأساسية العاجلة ، والبحث عن قضية الشيخين البائدة ، تحريفا لمسير النضال ، وتشتيتا لقوى المناضلين ، مع أنه خداع ومكر يطرحه الحكام الظالمون للتفريق بين الأمة ، لصرفها عن القضايا المصيرية ، المعاصرة ، التي هي محل ابتلاء المسلمين فعلا إلى قضايا تاريخية غير حيوية ! فإثارة مشكلة الخلافة - آنذاك - لم يزد أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم إلا انزواءا وانعزالا عن المجتمع العام ، وذلك هو المطلوب لرجال الدولة ، لأنه ييسر لهم اجتثات أصول المعارضة ، والقضاء على جذورها . بينما التع
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 99 › ( 1 ) الصحيفة السجادية الدعاء رقم ( 48 ) . ( 2 ) كفاية الأثر للخزاز ( ص 240 - 241 ) . ‹ هامش ص 100 › ( 1 ) كفاية الأثر للخزاز ( ص 243 ) . ‹ هامش ص 102 › ( 1 ) الكافي ( 3 / 234 ) وقد مر تخريجه . ( 2 ) الإرشاد للمفيد ( ص 266 ) . ‹ هامش ص 103 › ( 1 ) سير أعلام النبلاء ( 4 : 4 - 395 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( حديث 92 ) ومختصر ابن منظور له ( 147 : 240 ) . ‹ هامش ص 104 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 97 ) ومختصر تاريخ دمشق ( 17 : 241 ) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 104 - 110
ير عن تولي الشيخين ، وعامة الناس هم على ذلك بمن فيهم المثيرون ، لا يغير الآن شيئا ، وليس له مفعول مثل ما لتولي بني أمية اليوم ، وهم حكام مستحوذون مستخلفون كما استخلف أبو بكر وعمر ، لكن هؤلاء مالكو الساحة اليوم ، مع مالهم من مخالفات حتى لسنة الشيخين ، تلك السنة التي التزموا بها ودعوا إليها ، وباسمها استولوا على الأمور . وليست ولاية الشيخين بمجردها هي المشكلة الفعلية العائقة ، بل المشكلة - الآن - هي ولاية بني أمية ! الذين يستخدمون فكرة ولاية الشيخين ، ويريدون بذلك فقط أن يستمروا على الحكم والخلافة ، ويضربوا من لا يوافقهم على ولايتهم التي هي استمرار لولاية الشيخين . والمفروض أن ولاية الشيخين ، أصبحت وسيلة بأيدي الأمويين ليثبتوا عرشهم من جهة ، ويضربوا أهل البيت عليهم السلام من جهة أخرى . فلذا أعلن الإمام زين العابدين عليه السلام للسائل ، بأن ولاية الشيخين ليست موضعا ‹ صفحة 105 › للنقاش ، في هذا الوقت ، إذ لا يترتب عليها نفع للإسلام والمسلمين ، لمضي زمانها ، وإنما المضر - الآن - هو ولاية بني أمية ، التي لا بد أن تميز عن ولاية الشيخين ! مهما كانت استمرارا لها ولقد كشف الإمام السجاد عليه السلام عن أقنعة مثيري هذه الفتنة ، وفضحهم ، حيث قال لهم : قوموا عني ، لا قرب الله دوركم ، فإنكم متسترون بالإسلام ، ولستم من أهله ( 1 ) . فقد أعلن أن مثيري القضية بشكلها الغوغائي ليسوا إلا من المبعوثين من قبل بني أمية وعيونهم ، ممن لا ينتمون إلى الإسلام إلا ظاهريا ، وبالاسم فقط ، وإنما يريدون بإثارة هذه القضية ، وحملها على أهل البيت ، هدم الإسلام ، المتمثل - يومذاك - بشخص الإمام السجاد عليه السلام وشيعته . والإمام السجاد عليه السلام إنما يهدف إلى تجديد بناء الإسلام الذي هزهز بنو أمية قواعده وأركانه . وتربية الكوادر الذين أشرفوا على الانقراض على يد جلاوزة بني أمية حكام الشام . وإرساء قواعد التشيع التي أشرفت على الانهيار ، بعد فجيعة كربلاء . وإحياء الأمل في النفوس التي صدمتها الحوادث المتعاقبة وزرعت فيها اليأس والخوف . فما كان من المصلحة - أصلا - الإجابة على مثل تلك الأسئلة المثارة وقد كان مثيروها لا يمتون إلى الإسلام بصلة ، وإنما هم متقنعون باسمه - لتمرير أهدافهم - بتقديم هذه الأسئلة ، وإثارة قضايا الخلاف في الخلافة ، التي يريد العدو أن يستغلها بأية صورة . فالإجابة الصحيحة ، إذا كانت مخالفة لرأي العامة الغوغاء ، فإنها تثيرهم ، فينثالون على البقية الباقية من المؤمنين بخط أهل البيت عليهم السلام فيبيدونهم عن بكرة أبيهم ، فلا يبقى منهم نافخ نار ، ولا طالب ثار . وكل ذلك من أجل قضية لا أثر لإثارتها هذا اليوم ، ولا دخل لها في القضايا ‹ صفحة 106 › المصيرية الراهنة ، في عهد الإمام عليه السلام ، فلا تسمن ، ولا تغني الأمة من جوع ، ولا تكسوهم من عري ، أو تنجدهم من ظلم أو جور . والمستفيد من تلك الإثارة ، هم الحكام المسيطرون ، وهم ذلك اليوم بنو أمية ، الذين يحاولون وبشتى الأساليب إبادة الحضارة الإسلامية ، في فكرها ، وتراثها ، ورجالها ، ومقدساتها . وهم الذين يسعون في إحياء الجاهلية ، في وثنيتها وصنميتها ، وعنصريتها ، وعصبيتها ، وجهلها ، وفسقها ، وفجورها ، وظلمها ، وبذخها ، وكفرها ، وعتوها . فأية القضيتين أولى بالبحث عنها عند الإمام السجاد عليه السلام ، وأحق أن يركز عليها ويعارضها ؟ هل هي ولاية بني أمية ؟ أو ولاية الشيخين ؟ لقد كان - حقا - موقف الإمام السجاد عليه السلام : شجاعا ، وصريحا ، ومدروسا : كان عليه السلام شجاعا : أن يواجه ، ويجابه الذين كان يعلم نياتهم الخبيثة ، وأهدافهم الدنيئة ، من جواسيس بني أمية ، وعيونهم ، البرءآء من الإسلام ، وكذلك في الإعلان عن خططهم وتدابيرهم الإجرامية . فالذين لم يؤمنوا بأصل الإسلام ، كيف يهتمون بقضية الخلافة والخلفاء السابقين ؟ وما هو هدفهم من هذه الإثارة ؟ ولو صدقوا في أسئلتهم : فلماذا لا يهتمون بما يجري على المسلمين في ولاية بني أمية ؟ وما لهم لا يتساءلون عن حق بني أمية في الحكم الظالم ؟ وهذا مثل ما تثيره الأجهزة الاستعمارية ، وأذنابهم النهضويون والرجعيون - في عصرنا الحاضر - من النزاعات المذهبية بين الطوائف الإسلامية الواعية ، فإن كل مسلم عاقل يفطن إلى أن إثارتهم هذه ليست لمصلحة الأمة الإسلامية وإنما هم يهدفون من وراءها إلى ضرب القدرة الإسلامية العظيمة والصحوة الإسلامية ‹ صفحة 107 › المتنامية ، وتحطيم كيان الدين الإسلامي ، المركز في قلوب الأمة . وكان الإمام السجاد عليه السلام صريحا : في إعراضه عن تفصيل القضية ، حيث يجر إلى ما يريده الأعداء ، بل صرف الأنظار إلى ما هم مبتلون به من مشاكل ومآس ، بالولاية الباطلة التي تخيم عليهم بظلمها وجرائمها وحكامها الجائرين ! وكان موقفه مدروسا : إذ لم يدل بتصريح يخالف الحق أو ينافي الحقيقة ، بل حافظ عليهما بقدر ما يخلص الموقف من الحرج ، ويخرج الإنسان المسؤول من المأزق

الشيخ حسن العبد الله 12-24-2010 09:57 PM

وموقف مماثل مع أحد العلماء : لكن الحديث يأخذ شكلا آخر إذا كانت المواجهة مع أحد الذين ينتمون إلى العلم ، لأن التنبيه على الحقائق - حينئذ - يكون أوضح وأصرح وألزم ! لكن مع الأخذ بنظر الاعتبار كل الملاحظات الحساسة التي يتحرج الموقف بها ، فاقرأ معي هذا الحديث : عن حكيم بن جبير ، قال : قلت لعلي بن الحسين : أنتم تذكرون - أو تقولون - : إن عليا قال : ( خير هذه الأمة بعد نبيها : أبو بكر ، والثاني عمر ، وإن شئت أن اسمي الثالث سميته ) فقال علي بن الحسين : فكيف أصنع بحديث حدثنيه سعيد بن المسيب عن سعد بن مالك [ ابن أبي وقاص ] أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج في غزوة تبوك فخلف عليا ، فقال له : أتخلفني ؟ فقال : ( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ إلا أنه لا نبي بعدي ) قال : ثم ضرب علي بن الحسين على فخذي ضربة أوجعنيها ، ثم قال : فمن هذا هو من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة هارون من موسى ؟ ( 1 ) . ‹ صفحة 108 › وفي نص آخر : فهل كان في بني إسرائيل بعد موسى مثل هارون ؟ فأين يذهب بك يا حكيم ؟ ( 1 ) ففي الوقت الذي لا يواجه الإمام حكيم بن جبير بتكذيب ما نسب إلى الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام من إعلانه أمام الأمة من أن خيرهم أبو بكر ثم عمر ثم الثالث ؟ فإن هذا المنسوب إلى أمير المؤمنين عليه السلام - وإن لم يصح - فهو مشهور بين الناس ، بقطع النظر عن أن الإمام إنما أعلن عما عند الناس من التفضيل للشيوخ ، بعد أن صار أمرا مفروضا لا يمكن مخالفته ، فما فائدة إنكاره . فإن أعاد أهل البيت عليهم السلام نفس الصيغة وتناقلوها فلا يدل على التزام ، لأنه تعبير عن مظلومية علي عليه السلام حيث لم يستطع أن يصرح بخلاف ما عند العامة الغوغاء . بل كان من أهدافه في الحفاظ على وحدة كلمة المجتمع الإسلامي وسلامته في حدوده الداخلية ، بينما معاوية يهدد أمن الدولة ويثير الخلاف والشقاق . لكن الإمام السجاد عليه السلام في حديثه مع حكيم بن جبير اتخذ أسلوبا علميا فذكره بمناقضة هذا المنقول - رغم شهرته - مع الحديث المتواتر المعلوم المتيقن بصدوره ، ومعناه ، وأهدافه ومرماه ، وهو حديث المنزلة أي قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام : ( أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي ) ( 2 ) . الذي لا يمكن إنكار صدوره ، ولا الاختلاف في معناه . فإذا كان علي بهذه المنزلة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عصره وبحضور كبار الصحابة ، فهل يبقى للحديث المنقول عن علي في تفضيل الشيوخ معنى ، غير الذي نقلناه ؟ وإذا كان الفضل بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالترتيب المذكور عند الناس ، فهل يكون لحديث المنزلة معنى ؟ مع أن التاريخ والقرآن لم يذكر في بني إسرائيل شخصا أفضل من هارون بعد موسى ؟ ‹ صفحة 109 › ثم ينبه الإمام السجاد عليه السلام حكيما بضربة على فخذه ، وينبهه بالعتاب فيقول : فأين يذهب بك يا حكيم ؟ وهكذا كان السجاد - رغم حصافة المواقف التي يتخذها ، والالتزام بالأهداف السامية في حفظ وحدة الكلمة - لا يترك الحقيقة مهملة عندما كان يخاطب من يفهم ، ويدرك ، وينتبه ! وإن كان له مع الغوغاء غير المتفهمين ، لأهداف الأئمة والإمامة ، تعاملا آخر يناسب حالهم ، ويخاطبهم على قدر عقولهم . والصلاة مع المخالفين : وللإمام السجاد عليه السلام موقف حازم مماثل من الدعايات المغرضة ، التي كان يبثها دعاة الضلال ضد شيعة أهل البيت عليهم السلام ، وهو ما جاء في الحديث التالي : قال محمد بن الفرات : صليت إلى جنب علي بن الحسين يوم الجمعة ، فسمعت ناسا يتكلمون في الصلاة ! فقال عليه السلام : ما هذا ؟ فقلت : شيعتكم ! لا يرون الصلاة خلف بني أمية ! قال عليه السلام : هذا - والذي لا إله إلا هو - بدع ، فمن قرأ القرآن ، واستقبل القبلة فصلوا خلفه ، فإن يكن محسنا فله حسنته ، وإن يكن مسيئا فعليه ( 1 ) . فالمسلم الشيعي يقتدي بإمامه ، فإذا كان أولئك شيعة لأهل البيت عليهم السلام حقيقة ، وكانوا يرون الإمام السجاد عليه السلام وهو زعيم أهل البيت عليهم السلام في عصره ، ها هو واقف في الصف يؤدي الصلاة مع جماعة الناس ، فما بالهم يلغطون ، ليعرفوا أنفسهم أنهم لا يصلون مع الجماعة ؟ ولماذا يعرفون أنفسهم بأنهم شيعة لأهل البيت ، وهم يقومون بمثل هذا التحدي السافر ! ؟ وإلا ، كيف عرفهم الناس بأنهم شيعة ؟ ! ‹ صفحة 110 › إن القرائن الواضحة ، تعطي أن أولئك لم يكونوا من الشيعة ، بل من المندسين لتشويه سمعة أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم ، لاتهام أئمة أهل البيت والشيعة المؤمنين ، بمخالفة الجماعة . ولذلك ، تدارك الإمام عليه السلام الموقف ، وأفتاهم أولا بما يلتزم به العامة من الصلاة خلف كل بر وفاجر . ولم يدل بتفصيل حكم المسألة الفقهية في مذهب أهل البيت عليهم السلام ، وهو أن المؤمن إذا حض
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 104 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 97 ) ومختصر تاريخ دمشق ( 17 : 241 ) . ‹ هامش ص 105 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 98 ) ومختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 17 : 241 ) . ‹ هامش ص 107 › ( 1 ) مناقب أمير المؤمنين عليه السلام للكوفي ج 1 ص 521 ح 451 و ح 461 ص 528 . ‹ هامش ص 108 › ( 1 ) مناقب الكوفي ( ج 1 ص 522 ) ح ( 453 ) . ( 2 ) نقلنا أقوال العلماء بتواتر هذا الحديث الشريف ، وذكرنا بعض مصادره في البحث الأول من التمهيد ، فراجع ( ص 18 ) . ‹ هامش ص 109 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 110 ) ومختصر تاريخ دمشق ، لابن منظور ( 17 : 243 ) . ‹ هامش ص 110 › ( 1 ) كما في نص الحديث لاحظ وسائل الشيعة ( 8 / 300 ) الباب ( 5 ) من أبواب صلاة الجماعة كتاب الصلاة تسلسل . ( 10722 ) . ( 2 ) وسائل الشيعة ، كتاب الصلاة ، أبواب الجماعة ، الباب ( 34 ) تسلسل ( 10925 ) ( 3 ) المصدر السابق ( 299 / 8 ) تسلسل ( 10717 ) و ( 10720 ) و ( 10723 ) . ( 4 ) المصدر نفسه ، تسلسل ( 10733 ) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 110 - 117
ضر صلاة الجماعة ، ولا بد أن يحضر ، لأنه لا يمكنه الانعزال بل هو أولى بالمسجد من غيره ( 1 ) ، فعليه أن يقتدي بإمام الصلاة ، ويصلي بصلاته ، وفي بعض النصوص : إنها أفضل الركعات ( 2 ) بل في بعضها : ( أن الصلاة معهم كالصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) ( 3 ) حيث تعطي روعة الوحدة التي كان عليها المسلمون في عهده الأزهر . وإذا لم يحضر المؤمن صلاة الجماعة ، فليصل منفردا في بيته ( 4 ) . وأما أن يحضر الصلاة ، ولا يصلي مع الجماعة ، أو يلغط ويتكلم فيشوش على الآخرين أيضا ، فهذا حرام قطعا ، فكيف يقوم بذلك من يدعي الانتماء إلى التشيع ، ويلتزم بإمامة الإمام زين العابدين عليه السلام ؟ ! وهو يقوم بهذا العمل المخالف لفقه الأئمة . فهذا في نفس الوقت تشهير بهم ، وتحريض للعامة ضدهم ، بجرح عواطفهم ! إن مثل هذا العمل الاستفزازي لا يصدر من عاقل يريد مصلحة نفسه ، أو مصلحة إمامه ، أو مصلحة مذهبه . مع مخالفته للإمام عليه السلام الذي هو واقف في صف الجماعة ، ويصرح بذلك التصريح ، ومخالفته لفقه أهل البيت وتعليماتهم ومواقفهم العملية في الحضور في الجماعات وأداء الصلوات معها ! ! ‹ صفحة 111 › ثالثا : في الشريعة والأحكام . يتميز الإمام في نظر الشيعة ، بأنه ليس وليا للأمر ، وحاكما على البلاد والعباد فحسب ، بل هو مصدر لتشريع الأحكام أيضا ، باعتبار معرفته التامة بالشريعة وارتباطه الوثيق بمصادرها . والانحراف الذي حصل عن أئمة أهل البيت عليهم السلام لم يكن في جانب حكمهم وولايتهم فقط ، بل الأضر من ذلك هو الانحراف عن أحكام الشريعة التي كانوا يحملونها ! والحكام الذين استولوا على أريكة الخلافة بأشكال من التدابير السياسية حتى بلغ أمرها أن صارت ( ملكا عضوضا ) كانوا يدركون أن أئمة أهل البيت عليهم السلام هم أولى منهم في كلا جانبي الحكم والولاية ، وكذلك في جانب الفقه والعلم بالشريعة . وكما أزووا أئمة أهل البيت عن الحكم والولاية على الناس ، حاولوا أيضا - إزواءهم عن الفقه وإبعاد الناس عنهم ، وذلك باختلاق مذاهب فقهية روجوها بين الناس ، وعارضوا الأحكام التي صدرت من أئمة أهل البيت عليهم السلام ، وحاربوا فقهاءهم بشتى الأساليب ، فكان من أعظم اهتمامات الأئمة وأتباعهم هو إرشاد الناس إلى هذا المعين الصافي للشريعة الإسلامية كي ينتهلوا منه . وقد كان اهتمام الإمام السجاد عليه السلام بليغا بهذا الأمر ، حيث كان يعيش بدايات الانحراف ! ولقد دعا الإمام عليه السلام إلى فقه أهل البيت عليهم السلام لكونه أصفى المناهل وأعذبها ، وأقربها من معين القرآن الكريم ، وسنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ( فأهل البيت أدرى بما في البيت ) . ففي كلام له يشرح اختلاف الأمة ، يقول : وكيف بهم ؟ وقد خالفوا الآمرين ، وسبقهم زمان الهادين ، ووكلوا إلى أنفسهم ، يتنسكون في الضلالات في دياجير الظلمات ‹ صفحة 112 › وقد انتحلت طوائف من هذه الأمة مفارقة أئمة الدين والشجرة النبوية أخلاص الديانة ، وأخذوا أنفسهم في مخاتل الرهبانية ، وتغالوا في العلوم ، ووصفوا الإسلام بأحسن صفاته ، وتحلوا بأحسن السنة ، حتى إذا طال عليهم الأمد ، وبعدت عليهم الشقة ، وامتحنوا بمحن الصادقين : رجعوا على أعقابهم ناكصين عن سبيل الهدى ، وعلم النجاة . وذهب آخرون إلى التقصير في أمرنا ، واحتجوا بمتشابه القرآن ، فتأولوه بآرائهم ، واتهموا مأثور الخبر مما استحسنوا ، يقتحمون أغمار الشبهات ، ودياجير الظلمات ، بغير قبس نور من الكتاب ، ولا أثرة علم من مظان العلم ، زعموا أنهم على الرشد من غيهم . وإلى من يفزع خلف هذه الأمة ؟ ! وقد درست أعلام الملة والدين بالفرقة والاختلاف ، يكفر بعضهم بعضا ، والله تعالى يقول : * ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات ) * [ ( سورة البقرة ( 2 ) الآية ( 213 ) ] . فمن الموثوق به على إبلاغ الحجة ؟ وتأويل الحكمة ؟ إلا إلى أهل الكتاب ، وأبناء أئمة الهدى ، ومصابيح الدجى ، الذين احتج الله بهم على عباده ، ولم يدع الخلق سدى من غير حجة . هل تعرفونهم ؟ أو تجدونهم إلا من فروع الشجرة المباركة ، وبقايا صفوة الذين أذهب الله عنهم الرجس ، وطهرهم تطهيرا ، وبرأهم من الآفات ، وافترض مودتهم في الكتاب ( 1 ) . وقال عليه السلام لرجل شاجره في مسألة شرعية فقهية : يا هذا ! لو صرت إلى منازلنا ، لأريناك آثار جبرئيل في رحالنا ، أيكون أحد أعلم بالسنة منا ؟ ( 2 ) . وقال لرجل من أهل العراق : ‹ صفحة 113 › أما لو كنت عندنا بالمدينة لأريناك مواطن جبرئيل من دورنا ، استقانا الناس العلم ، فتراهم علموا وجهلنا ؟ ( 1 ) . ولنفس الهدف السامي ، قاوم الإمام السجاد عليه السلام الانحراف الفقهي الذي منيت به الأمة ، بالتزام الشريعة وأخذها من أناس تعلموا الفقه من طرق لا تتصل بمنابع الوحي الثرة الصافية المأمونة . فيقول عليه السلام : إن دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة ، والآراء الباطلة ، والمقاييس الفاسدة ، لا يصاب إلا بالتسليم . فمن سلم لنا سلم ، ومن اقتدى بنا هدي ، ومن كان يعمل بالقياس والرأي هلك ، ومن وجد في نفسه - مما نقوله ، أو نقضي به - حرجا ، كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم ، وهو لا يعلم ( 2 ) . وهكذا كان شديد النكير على تلك البوادر المضللة ، وحارب بدعة تقليد غير أهل البيت عليهم السلام من المذاهب المنسوبة إلى البعداء عن ينابيعه نسبيا وحتى سببيا ، أولئك الذين روجت الحكومات والدول الظالمة فقههم ، لأنهم كانوا مسالمين لهم ، ومنضوين تحت ضلالهم ، من المتكئين على آرائك الخلافة المزعومة . وهذا الذي حذر الرسول الأكرم منه في أحاديث مستفيضة ، أوردنا نصوصها في كتاب ( تدوين السنة الشريفة ) وتحدثنا عن دلالتها ( 3 ) . وقد تمكن الإمام زين العابدين عليه السلام من توضيح معالم فقه أهل البيت عليهم السلام وإرساء قواعده ، وإغناء معارفه ، وتزويد طلابه وتربيتهم ، حتى أقر كبار العلماء بأنه ( الأفقه ) من الجميع ، وفيهم عدة من فقهاء البلاط ووعاظ السلاطين : قال أبو حازم : ما رأيت هاشميا أفضل من علي بن الحسين ، وما رأيت أحدا كان أفقه منه ( 4 ) . ‹ صفحة 114 › ومثله قال الزهري محمد بن مسلم بن شهاب ( 1 ) . وقال الشافعي - إمام المذهب - : إن علي بن الحسين أفقه أهل البيت ( 2 ) . وإذا لم يكن للحكام المسيطرين ، باسم الخلافة الإسلامية ، نصيب من علم الشريعة وفقه الدين ، بل كانت أعمالهم مخالفة لأحكام الله وسنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ! وإذا كان فقهاء البلاط ، وأصحاب المذاهب ، يفخرون بالتلمذ عند علماء أهل البيت عليهم السلام ( 3 ) . فإن إعلان الإمام السجاد عليه السلام عن حقيقة مذهب أهل البيت الفقهي وتبيين موقعيته المتقدمة على جميع المذاهب الفقهية ، والدعوة إلى الالتزام به ، هو نسف عملي لقواعد الخلافة المزعومة التي كان المتكئ على أريكتها من أجهل الناس بالفقه ، وكل الناس أفقه منه حتى المخدرات في الحجال ! وكذلك هو تقويض لأعمدة التزوير التي رفعت فساطيط المذاهب الرسمية المدعومة من قبل دار الخلافة ، والتي تبعها الهمج الرعاع من العوام أتباع كل ناعق ! ‹ صفحة 115 › وأخيرا : في إعمار الكعبة المعظمة وللإمام موقف عظيم يدل على المراقبة التامة لما يجري ، مع التصدي لاعتداءات الحكام الظلمة على الرموز الأساسية للدين ، وهو : موقفه من إعادة تعمير الكعبة ، في ما رواه الكليني والصدوق ، بسندهما عن أبان بن تغلب ، قال : لما هدم الحجاج الكعبة ، فرق الناس ترابها ، فلما جاءوا إلى بنائها وأرادوا أن يبنوها ، خرجت عليهم حية ، فمنعت الناس البناء حتى انهزموا . فأتوا الحجاج ، فأخبروه ، فخاف أن يكون قد منع بناءها ، فصعد المنبر ، وقال : أنشد الله عبدا عنده خبر ما ابتلينا به ، لما أخبرنا به . قال : فقام شيخ فقال : إن يكن عند أحد علم ، فعند رجل رأيته جاء إلى الكعبة ، وأخذ مقدارها ، ثم مضى . فقال الحجاج : من هو ؟ . قال : علي بن الحسين . قال : معدن ذلك ، فبعث إلى علي بن الحسين ، فأخبره بما كان من منع الله إياه البناء . فقال له علي بن الحسين : يا حجاج ! عمدت إلى بناء إبراهيم ، وإسماعيل عليهما السلام وألقيته في الطريق وانتهبه الناس ، كأنك ترى أنه تراث لك . إصعد المنبر ، فأنشد الناس أن لا يبقى أحد منهم أخذ منه شيئا إلا رده . قال : ففعل ، فردوه ، فلما رأى جميع التراب ، أتى علي بن الحسين فوضع الأساس ، وأمرهم أن يحفروا . قال : فتغيبت عنهم الحية ، وحفروا حتى انتهى إلى موضع القواعد . فقال لهم علي بن الحسين : تنحوا ، فتنحوا ، فدنا منها فغطاها بثوبه ، ثم بكى ، ثم غطاها بالتراب ، ثم دعا الفعلة ، فقال : ضعوا بناءكم . فوضعوا البناء ، فلما ارتفعت حيطانه ، أمر بالتراب فألقي في جوفه . ‹ صفحة 116 › فلذلك صار البيت مرتفعا يصعد إليه بالدرج ( 1 ) . فالمراقبة واضحة في أخذ الإمام ( مقادير الكعبة ) لئلا تضيع المعالم الأثرية لأكبر محور لرحى الدين ، وهي الكعبة الشريفة . وإذا كانت تلك المراقبة تتم في ظرف ولاية مثل الحجاج الملحد السفاح الناصب لآل محمد العداء المعلن ، فلن تخفى أهميتها ، ودلالتها القاطعة على التحدي . ومواجهة الحجاج بمثل ذلك الكلام ( كأنك ترى أنه تراث لك ! ) تصد لانتهاكه لحرمة الكعبة المعظمة ، والتلاعب بها حسب رغباته الخاصة . وأهم ما في الأمر جر الحجاج إلى التصريح بأن الإمام ( هو معدن ذلك ) وهي شهادة لها وقعها في الإلزام والإبكات للخصم اللدود . وأخيرا : نزول الإمام عليه السلام إلى القواعد - وحده - وربطه لنفسه بها بذلك الشكل أمام أعين الناظرين ، إثبات لحقه في إقامتها دون غيره . وهل كل ذلك يتهيأ إلا من التدبير العميق ، والتخطيط الدقيق ، ممن يحمل هدفا ساميا في قلب شجاع ، لا يملكه في تلك الظروف الحرجة ، شخص غير الإمام السجاد زين العابدين عليه السلام . ‹ صفحة 117 › الفصل الثالث النضال الاجتماعي والعملي أولا : في مجال الأخلاق والتربية ثانيا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 110 › ( 1 ) كما في نص الحديث لاحظ وسائل الشيعة ( 8 / 300 ) الباب ( 5 ) من أبواب صلاة الجماعة كتاب الصلاة تسلسل . ( 10722 ) . ( 2 ) وسائل الشيعة ، كتاب الصلاة ، أبواب الجماعة ، الباب ( 34 ) تسلسل ( 10925 ) ( 3 ) المصدر السابق ( 299 / 8 ) تسلسل ( 10717 ) و ( 10720 ) و ( 10723 ) . ( 4 ) المصدر نفسه ، تسلسل ( 10733 ) . ‹ هامش ص 112 › ( 1 ) كشف الغمة للأربلي ( 2 : 98 - 99 ) وانظر جامع أحاديث الشيعة للبروجردي ( 1 : 40 ) الإمام زين العابدين للمقرم ( ص 242 ) . ( 2 ) نزهة الناظر ، للحلواني ( ص 45 ) . ‹ هامش ص 113 › ( 1 ) بصائر الدرجات ، للصفار ( ص 32 ) . ( 2 ) إكمال الدين ( ص 324 ب 31 ح 9 ) . ( 3 ) لاحظ الصفحات ( 352 - 359 ) و ( 425 ) من : تدوين السنة الشريفة . ( 4 ) تاريخ دمشق الحديث ( 45 ) مختصر تاريخ دمشق ( 17 : 240 ) وسير أعلام النبلاء ( 4 : 394 ) وكشف الغمة ( 2 : 80 ) ‹ هامش ص 114 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 37 ) وسير أعلام النبلاء ( 4 : 389 ) وصفوة الصفوة ( 2 : 99 ) . ( 2 ) رسائل الجاحظ ( ص 106 ) وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ( 15 : 274 ) عن الرسالة للشافعي - في خبر الواحد - . ( 3 ) كان أبو حنيفة - إمام المذهب - يقول : ( لولا العامان لهلك النعمان ) يشير إلى العامين اللذين حضر فيهما عند الإمام الصادق عليه السلام ، وكان قبل ذلك قد أخذ من الإمام الباقر عليه السلام وأخيه زيد الشهيد . انظر الإمام جعفر الصادق ، للجندي ( ص 162 ) والنظم الإسلامية ، لصبحي الصالح ( ص 209 ) وموقف الخلفاء العباسيين لعبد الحسين علي أحمد ( ص 37 ) - ولاحظ شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ( 15 : 274 ) وموقف الخلفاء ( ص 31 ) عن الشكعة في الأئمة الأربعة ( ص 52 ) وعن أبي زهرة في : أبو حنيفة ( 72 ) . ‹ هامش ص 116 › ( 1 ) نقله ابن شهرآشوب في المناقب ( 4 / 152 ) ط الأضواء ، عن الكافي وعلل الشرائع للصدوق .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 117 - 124
: في مجال الإصلاح وشؤون الدولة ثالثا : في مجال مقاومة الفساد وأخيرا : مع كتاب ( رسالة الحقوق ) ‹ صفحة 119 › إن من أهم أهداف الرجال الإلهيين إصلاح المجتمع البشري ، بتربيته على التعاليم الإلهية ، ولا بد للمصلح أن يمر بمراحل من العمل الجاد والمضني في هذا الطريق الشائك : 1 - أن يربي جيلا من المؤمنين على التعاليم الحقة التي جاء بها ، والأخلاق القيمة التي تخلق بها ، لكي يكونوا له أعوانا على الخير . 2 - أن يدخل المجتمع بكل ثقله ، ويحضر بين الناس ، ويواجه الظالمين والطغاة بتعاليمه ، ويبلغهم رسالات الله . 3 - أن يقاوم الفساد ، الذي يبثه الظالمون في المجتمع ، بهدف تفكيكه وشل قواه ، وتفريغه من المعنويات ، وإبعاده عن فطرته السليمة المعتمدة على الحق والخير والجمال ، لئلا يصنعوا منه آلة طيعة تستخدم حسب رغباتهم وطوع إرادتهم . وقد كان للإمام زين العابدين نشاط واسع في كل هذه المجالات ، حتى عد - بحق وجدارة - في صدر المصلحين الإلهيين ، بالرغم من تميز عصره بتحكم طغاة بني أمية على الأمة ، وعلى مقدراتها وباسم الخلافة الإسلامية ، التي تقتل من يعارضها وتهدر دمه بعنوان الخروج على الإسلام . إن مقاومة الإمام زين العابدين عليه السلام في مثل هذا الظرف ، بل وتمرير خططه ، وإنجاح مهماته وأهدافه ، مع قلة الأعوان والأنصار ، يعد معجزة سياسية تحققت على يد هذا الإمام العظيم ، الذي سار على خطى جده الرسول الأعظم ، في خلقه العظيم . وقد عقدنا هذا الفصل الثالث للوقوف على أوجه نشاطه العملي في تلك المجالات الاجتماعية : ‹ صفحة 120 › أولا : في مجال الأخلاق والتربية ضرب الإمام زين العابدين أروع الأمثلة في تجسيد الخلق المحمدي العظيم في التزاماته الخاصة ، وفي سيرته مع الناس ، بل مع كل ما حوله من الموجودات . فكانت تتبلور فيه شخصية القائد الإسلامي المحنك الذي جمع بين القابلية العلمية الراقية ، والفضل والشرف السامق ، والقدرة على جذب القلوب وامتلاكها ، ومواجهة المشاكل والوقوف لصدها بكل صبر وتوءدة وهدوء . فالصبر الذي تحلى به ، بتحمله ما جرى عليه في كربلاء ، وفي الأسر ، مما لا يحتاج إلى برهان وذكر . ومثابرته ومداومته على العمل الإسلامي ، بارزة للعيان ، وهذا الفصل يمثل جزءا من نشاطه السياسي والاجتماعي الجاد . وحديث مواساته للإخوان ، والفقراء والمساكين والأرامل والأيتام ، بالبذل والعطاء والإنفاق ، مما اشتهر عند الخاص والعام ، وسيأتي الكلام حول ذلك كله . وحنوه وحنانه على الرقيق ، وعلى الأقارب والأباعد ، بل على أعدائه وخصومه ، مما سارت به الركبان . وأخبار عبادته وخوفه من الله وإعلانه ذلك في كل مناسبة ، ملأت الصحف ، حتى خص بلقب ( زين العابدين ، وسيد الساجدين ) . ومن أمثلة خلقه الرائع : العفو : وقد تناقل المؤلفون حديث هشام بن إسماعيل الذي كان أميرا على مدينة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، للأمويين ، فعزلوه ، وقد كان منه أو بعض أهله شي يكره ، تجاه الإمام زين العابدين عليه السلام ، أيام كان أميرا ، فلما عزل أوقف للناس ، فكان لا يخاف إلا من الإمام أن يؤاخذه على ما كان منه . فمر به الإمام ، وأرسل إليه : ( استعن بنا على ما شئت ) . ‹ صفحة 121 › فقال هشام : * ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) * [ سورة الأنعام ( 6 ) الآية ( 124 ) ( 1 ) . وبهذا ، تمكن الإمام من جذب قلوب الناس ، حتى ألد الأعداء ، فكان سببا لانفتاح الجميع على أهل البيت عليهم السلام ومذهبهم ، بعد أن انغلقوا عنهم ، واعتزلوهم بعد وقعة كربلاء . ولقد ظهرت ثمرة تلك الأخلاق والجهود ، في يوم وفاة الإمام عليه السلام ، فقد خرج الناس كلهم ، فلم يبق رجل ولا امرأة إلا خرج لجنازته بالبكاء والعويل ، وكان كيوم مات فيه رسول الله ( 2 ) . وكان من أطيب ثمرات هذه الجهود أن مهدت الأرضية للإمام محمد بن علي ، الباقر عليه السلام كي يتسنم مقام الإمامة بعد أبيه زين العابدين ، ويقوم بتعليم الناس معالم دينهم ، وتتكون المدرسة الفقهية الشيعية على أوسع مدى وأكمل شكل وأتقنه . ومن أبرز الجهود التي بذلها الإمام زين العابدين عليه السلام في تحركه القيادي هو ما قام به من جمع صفوف المؤمنين ، والتركيز على تربيتهم روحيا ، وتعليمهم الإسلام ، وإطلاعهم على أنقى المصادر الموثوقة للفكر الإسلامي ، ومن خلال روافده الثرة الغنية ، بهدف وصل الحلقات ، كي لا تنقطع سلسلة عقد الإيمان ، ولا تنفرط أسس العقيدة . وبهدف تحصين العقول والنفوس من الانحرافات التي يثيرها علماء السوء الذين كانوا يبعدون الناس عن الإسلام الحق ، ويكدرون ينابيعه وروافده بالشبه والأباطيل . وتعد هذه البادرة من أهم معالم الحركة عند الإمام زين العابدين ، وأعمقها أثرا وخلودا في مقاومة الدولة الحاكمة ، التي استهدفت كل معالم الإسلام ، بغرض القضاء عليه ، وإبادته ، والعودة بالأمة إلى الجاهلية الأولى بوثنيتها ، وفسادها ، وجهلها . ‹ صفحة 122 › فراح الإمام يدعو الأمة إلى التفكير والتدبر : فمن أقواله عليه السلام : الفكرة مرآة تري المؤمن حسناته وسيئاته ( 1 ) . ويدعو إلى العلم والفضل والحكمة : فقال عليه السلام : سادة الناس في الدنيا : الأسخياء ، وفي الآخرة : أهل الدين ، وأهل الفضل ، والعلم ، لأن العلماء ورثة الأنبياء ( 2 ) . وقال عليه السلام : لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج . إن الله أوحى إلى دانيال : إن أمقت عبيدي إلي الجاهل ، المستخف بحق أهل العلم ، التارك للاقتداء بهم ، وإن أحب عبيدي إلي التقي ، الطالب للثواب الجزيل ، الملازم للعلماء ، التابع للحكماء ( 3 ) . وكان عليه السلام يحث الأمة - والشباب منهم خاصة - على طلب العلم ، فكان إذا نظر إلى الشباب الذين يطلبون العلم أدناهم إليه ، فقال : مرحبا بكم ، أنتم ودائع العلم ، أنتم صغار قوم يوشك أن تكونوا كبار آخرين ( 4 ) . وكان إذا جاءه طالب علم قال : مرحبا بوصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( 5 ) . ويدعو الأمة إلى المراقبة الذاتية لنفسها ، لتتحصن من اجتياح وسائل التزوير والخداع ، ونفوذ نفثات الشياطين . فيقول عليه السلام : ليس لك أن تقعد مع من شئت ، لأن الله تعالى يقول في الأنعام [ الآية 68 ] : * ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ، وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ) * . وليس لك أن تتكلم بما شئت ، لأن الله يقول في الإسراء [ الآية 36 ] : * ( ولا تقف ما ‹ صفحة 123 › ليس لك به علم ) * وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( رحم الله عبدا قال خيرا فغنم ، أو صمت فسلم ) . وليس لك أن تسمع ما شئت ، لأن الله يقول : [ الإسراء : 36 ] : * ( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ) * ( 1 ) . وبهذا يحذر الإمام عليه السلام الأمة من الجلوس مع المزورين والظالمين ، ومن التحدث والكلام معهم ، أو صرف العمر معهم في حديث الجهالات والخرافات ، وما لا يزيد الإنسان معرفة بحياته أو قوة وتركيزا في عقيدته وإيمانه ، أو تعديلا في سلوكه وأخلاقه ، بل لا تعدو لغو السمر ، والشعر الساقط ، وأحاديث الفكاهة والمجون ، التي كان يروجها السلاطين وأمراء السوء . وهو عليه السلام في الوقت نفسه يحيي بهذا الأسلوب سنن الاستدلال بآيات القرآن الكريم ، والاعتماد عليه وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اللذين دأب الظالمون على إبعاد الأمة عنهما ، وإماتتهما ، وإبادتهما بالإحراق بالنار ، والإماثة في الماء ، والدفن تحت الأرض ، ومنع التدوين . كما حذر الأمة من الارتباط بمن لا يدعو إلى الله والحق ، ومن الاستماع إليهم ، وهم دعاة السوء ، وأدعياء العلم ، من علماء البلاط ، الذين ركنوا إلى الظالمين وآزروهم . وقد كان عليه السلام يدأب على تربية الأمة وتهذيبها ، وتقديم الإرشادات إليها ، وتجلى ذلك في وصاياه المأثورة التي جمعت بين معالم الهداية والحكمة ، ووسائل الحذر والوقاية ، وبث الأمل والقوة ، وبعث النشاط والهمة في نفوس أصحابه : ففي رسالته إليهم يقول عليه السلام : بسم الله الرحمن الرحيم : كفانا الله وإياكم كيد الظالمين ، وبغي الحاسدين ، وبطش الجبارين . أيها المؤمنون ، لا يفتنكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في هذه الدنيا ، المائلون إليها ، المفتنون بها ، المقبلون عليها ، وعلى حطامها الهامد ، وهشيمها البائد غدا ‹ صفحة 124 › فاحذروا ما حذركم الله منها ، وازهدوا في ما زهدكم الله فيه منها . ولا تركنوا إلى ما في هذه الأمور ركون من اتخذها دار قرار ومنزل استيطان . والله ! إن لكم مما فيها لدليلا ، وتنبيها ، من تصرف أيامها ، وتغير انقلابها ومثلاتها ، وتلاعبها بأهلها ، إنها لترفع الخميل ، وتضع الشريف ، وتورد أقواما إلى النار غدا ، ففي هذا معتبر ومختبر وزاجر لمنتبه . إن الأمور الواردة عليكم في كل يوم وليلة من مضلات الفتن ، وحوادث البدع ، وسنن الجور ، وبوائق الزمان ، وهيبة السلطان ، ووسوسة الشيطان ، لتثبط القلوب عن تنبهها ، وتذهلها عن موجود الهدى ، ومعرفة أهل الحق إلا قليلا ممن عصم الله ، فليس يعرف تصرف أيامها وتقلب حالاتها ، وعاقبة ضرر فتنتها إلا من عصم الله ، ونهج سبيل الرشد ، وسلك طريق القصد ، ثم استعان على ذلك بالزهد ، فكرر الفكر ، واتعظ بالعبر فازدجر ، وزهد في عاجل بهجة الدنيا ، وتجافى عن لذاتها ، ورغب في دائم نعيم الآخرة ، وسعى لها سعيها ، وراقب الموت ، وشنأ الحياة مع القوم الظالمين ، ونظر إلى ما في الدنيا بعين نيرة حديدة النظر ، وأبصر حوادث الفتن ، وضلال البدع ، وجور الملوك الظلمة . فقد - لعمري - استدبرتم الأمور الماضية في الأيام الخالية من الفتن المتراكمة ، والانهماك فيها ، ما تستدلون به على تخيب الغواة وأهل البدع ، والبغي ، والفساد في الأرض ، بغير الحق . فاستعينوا بالله
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 121 › ( 1 ) تاريخ دمشق . الحديث ( 111 ) ومختصره لابن منظور ( 17 : 243 ) وانظر صورا أخرى للقصة في بحار الأنوار ( 46 : 94 و 167 ) وشرح الأخبار ، للقاضي ( 3 : 260 ) وكشف الغمة ( 2 : 100 ) وتاريخ الطبري ( 5 : 216 ) وتاريخ اليعقوبي ( 2 : 280 و 283 ) . ( 3 ) الإمام زين العابدين ، للمقرم ( ص 412 ) . ‹ هامش ص 122 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 138 ) ومختصره لابن منظور ( 17 : 254 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث 85 ) ومختصره لابن منظور ( 17 : 239 ) . ( 3 ) الوافي ، للفيض الكاشاني ( 1 : 42 ) . ( 4 ) بلاغة علي بن الحسين عليه السلام ( ص 171 ) . عن الأنوار البهية ، للقمي . ( 5 ) الخصال ، للصدوق ( ص 517 ) . ‹ هامش ص 123 › ( 1 ) علل الشرائع ، للصدوق ( ص 5 - 606 ) الحديث ( 80 ) وانظر بحار الأنوار ( 1 : 101 ) طبع الحجر .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 124 - 130
، وارجعوا إلى طاعة الله ، وطاعة من هو أولى بالطاعة ممن اتبع فأطيع . فالحذر ، الحذر ، من قبل الندامة والحسرة والقدوم على الله ، والوقوف بين يديه . وتالله ! ما صدر قوم قط عن معصية الله إلا إلى عذابه ، وما آثر قوم - قط - الدنيا على الآخرة ، إلا ساء منقلبهم ، وساء مصيرهم . وما العلم بالله والعمل بطاعته إلا إلفان مؤتلفان ، فمن عرف الله خافه ، وحثه الخوف على العمل بطاعة الله . وإن أرباب العلم وأتباعهم الذين عرفوا الله فعملوا له ، ورغبوا إليه ، فقد قال الله : * ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) * [ فاطر ( 35 ) الآية : 4 ] . فلا تلتمسوا شيئا مما في هذه الدنيا بمعصية الله ، واشتغلوا في هذه الدنيا بطاعة الله ، ‹ صفحة 125 › واغتنموا أيامها ، واسعوا لما فيه نجاتكم من عذاب الله ، فإن ذلك أقل للتبعة ، وأدنى من العذر ، وأرجى للنجاة . فقدموا أمر الله ، وطاعة من أوجب الله طاعته ، بين يدي الأمور كلها ، ولا تقدموا الأمور الواردة عليكم من الطواغيت ، من زهرة الدنيا ، بين يدي أمر الله وطاعته وطاعة أولي الأمر منكم . واعلموا أنكم عبيد الله ، ونحن معكم ، يحكم علينا وعليكم سيد غدا ، وهو موقفكم ، ومسائلكم ، فأعدوا الجواب قبل الوقوف والمسألة والعرض على رب العالمين . واعلموا أن الله لا يصدق كاذبا ، ولا يكذب صادقا ، ولا يرد عذر مستحق ، ولا يعذر غير معذور ، له الحجة على خلقه بالرسل والأوصياء . فاتقوا الله - عباد الله - واستقبلوا في إصلاح أنفسكم طاعة الله ، وطاعة من تولونه فيها ، لعل نادما قد ندم في ما فرط بالأمس في جنب الله ، وضيع من حقوق الله . فاستغفروا الله ، وتوبوا إليه ، فإنه يقبل التوبة ، ويعفو عن السيئة ، ويعلم ما تفعلون . وإياكم ، وصحبة العاصين ، ومعونة الظالمين ، ومجاورة الفاسقين ، احذروا فتنتهم ، وتباعدوا من ساحتهم . واعلموا أنه من خالف أولياء الله ، ودان بغير دين الله ، واستبد بأمره دون ولي الله كان في نار تلهب ، تأكل أبدانا قد غاب عنها أرواحها ، وغلبت عليها شقوتها ، فهم موتى لا يجدون حر النار ، ولو كانوا أحيأءا لوجدوا مضض حر النار . فاعتبروا يا أولي الأبصار واحمدوا الله على ما هداكم ، واعلموا أنكم لا تخرجون من قدرة الله إلى غير قدرته ، وسيرى الله عملكم ورسوله ، ثم إليه تحشرون . وانتفعوا بالعظة . وتأدبوا بآداب الصالحين ( 1 ) . ‹ صفحة 126 › بهذا يحصن الإمام عليه السلام أصحابه خاصة والمسلمين عامة بالطاعة ، والزهد ، والورع عن المعاصي ، والبعد عن بهجة الدنيا وعن مفاتن الحياة المادية ، التي يستخدمها الطواغيت ، كمغريات لتحريف الأمة عن سنن الهدى

الشيخ حسن العبد الله 12-24-2010 10:00 PM




ويحاول الإمام عليه السلام أن يهون عليهم المصائب والأتعاب التي تواجههم على هذا الطريق الوعر . ويؤكد عليه السلام على التزامهم بالحق ، واعتقادهم بولاية الأئمة الأطهار عليهم السلام : الذين فرض الله ولايتهم وأوجب طاعتهم . ويبث في نفوسهم روح المقاومة والصبر والصمود والمثابرة والجد ، ويثير فيهم روح العمل والتحرك والنشاط ! ويملؤهم بالأمل ، والبشرى بالنجاح والفلاح ، ويصلي عليهم لتكون صلاته سكنا لهم . فيقول في دعائه ليوم عرفة بعد الصلاة على الأئمة : . اللهم ! وصل على أوليائهم ، المعترفين بمقامهم ، المتبعين منهجهم ، المقتفين آثارهم ، المستمسكين بعروتهم ، المتمسكين بولايتهم ، المؤتمين بإمامتهم ، المسلمين لأمرهم ، المجتهدين في طاعتهم ، المنتظرين أيامهم ، المادين إليهم أعينهم ( 1 ) . وبهذه القوة ، ليصنع منهم جيلا ، متكتلا ، متوثبا ، طموحا ، ثابت الجأش ، قوي العزيمة ، متماسك الصف ، متحد الهدف . وفي نص آخر ، يحثهم الإمام عليه السلام على المواساة والإحسان ، والمنافسة فيقول : شيعتنا ! أما الجنة فلن تفوتكم ، سريعا كان أو بطيئا ، ولكن تنافسوا في الدرجات ! واعلموا أن أرفعكم درجات ، وأحسنكم قصورا ، ودورا ، وأبنية : أحسنكم إيجابا بإيجاب المؤمنين ، وأكثركم مواساة لفقرائهم . ‹ صفحة 127 › إن الله ليقرب الواحد منكم إلى الجنة بكلمة طيبة يكلم أخاه المؤمن الفقير ، بأكثر من مسيرة ماءة عام بقدمه ، وإن كان من المعذبين بالنار . فلا تحتقروا الإحسان إلى إخوانكم ، فسوف ينفعكم حيث لا يقوم مقام غيره ( 1 ) . وهو عليه السلام في الوقت الذي يجد من أنصار الحق تذمرا ، أو وهنا ، أو تألما من مجاري الأحداث حولهم ، يهب لنجدتهم ، وتقويتهم روحيا ومعنويا ، فيقول : فما تمدون أعينكم ؟ لقد كان من قبلكم ، ممن هو على ما أنتم عليه ، يؤخذ فتقطع يده ورجله ويصلب ! ثم يتلو عليه السلام : * ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء . . . ) * [ البقرة ( 2 ) : 214 ] ( 2 ) وبكل هذه الجهود والتحصينات والتعاليم المركزة ، تربى جيل صامد من المؤمنين ، المتسلحين بالإسلام ، بعلومه وعقيدته وتقواه وإخلاصه ، فأصبحوا أمثلة للشيعة ، وقدوة صالحة للتعريف لمن يستحق هذا الاسم من المنتمين إلى التشيع ، من أمثال : يحيى بن أم الطويل : الذي عد من القلائل الذين بقوا - بعد كربلاء - على ولائهم واتصالهم بالإمام زين العابدين عليه السلام ( 3 ) ، بل هو من حوارييه ( 4 ) ، ومن أبوابه ( 5 ) . وكان من المجاهرين بالحق ، كان يقف بالكناسة في الكوفة ، وينادي بأعلى صوته : معاشر أولياء الله ! إنا برءآء مما تسمعون . من سب عليا عليه السلام فعليه لعنة الله . ونحن برءآء من آل مروان وما يعبدون من دون الله . ثم يخفض صوته فيقول : من سب أولياء الله فلا تقاعدوه ، ومن شك في ما نحن ‹ صفحة 128 › عليه فلا تفاتحوه ، ومن احتاج إلى مسألتكم من إخوانكم . . . فقد خنتموه ( 1 ) . وكان يدخل مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم - حيث يجتمع المشبهة الملحدون - ويقول : كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء ( 2 ) . وقد طلبه الحجاج ، وأمر بقطع يديه ورجليه ، وقتله ( 3 ) . وسعيد بن جبير : الذي مثل به الحجاج وقتله ( 4 ) وكان قد خرج مع عبد الرحمن بن الأشعث ، يحارب دولة بني أمية وكان يومئذ يقول : قاتلوهم ولا تأثموا من قتالهم ، بنية ويقين ، على آثامهم قاتلوهم ، وعلى جورهم في الحكم ، وتجبرهم في الدين ، واستذلالهم الضعفاء ، وإماتتهم الصلاة ( 5 ) . والذين اختفوا من جور بني أمية مثل سالم بن أبي حفصة ، وسليم بن قيس الهلالي ، وعامر بن واثلة الكناني ، ومحمد بن جبير بن مطعم . والذين هربوا فنجاهم الله مثل أبي خالد الكابلي ، وأبي حمزة الثمالي ، وشعيب مولى الإمام ( 6 ) . وآل أعين الذين قال الحجاج فيهم : ( لا يستقيم لنا الملك ومن آل أعين رجل تحت حجر ) ، فاختفوا وتواروا ( 7 ) . وفي طليعة من رباهم الإمام زين العابدين أبناؤه : الإمام أبو جعفر محمد الباقر عليه السلام ، الذي تحمل الإمامة من بعده ، وقاد الأمة إلى ‹ صفحة 129 › الهدى والرشاد ، وأسس المدرسة الفقهية على قواعد الإسلام المتينة ، ومصادره وأصوله الرصينة ، عندما بدأ الحكام بترويج فقه وعاظ السلاطين ، فحفظ بذلك الشريعة المقدسة من الزوال . وابنه الحسين الأصغر ، الذي روى عن أبيه العلم ، وكان مشارا إليه في العبادة والصلاح ( 1 ) . وأخذ الحديث عن عمته فاطمة بنت الحسين ، وأخيه الإمام الباقر عليه السلام ( 2 ) . وقال فيه الإمام الباقر عليه السلام : أما الحسين فحليم ، يمشي على الأرض هونا ( 3 ) . وابنه العظيم المجاهد في سبيل الله زيد الشهيد عليه السلام الذي ضرب أروع الأمثلة في الإباء والحمية ، والفداء والتضحية . وكان عين إخوته - بعد أبي جعفر عليه السلام - وأفضلهم ، وكان عابدا ورعا ، فقيها ، سخيا ، شجاعا ، وظهر بالسيف ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويطلب بثارات الحسين عليه السلام ( 4 ) . إن ثورة زيد بن علي عليه السلام كانت عظيمة من حيث توقيتها ، وآثارها التي خلفتها ، لخدمة حق أهل البيت عليهم ، ونستعرض في ما يلي بعض ذلك : 1 - إن هذه الحركة الشجاعة دلت على أن البيت الذي يلد مثل زيد من الرجال ، في البطولة والشهامة ، والجرأة والإقدام ، فضلا عن العلم والعبادة والتقى ، لا يبنى على التخاذل والمهادنة مع الظالمين ، أو الابتعاد عن السياسة والتوجس من العذاب ، والهول من المصائب . ولو كان لأحد أثر في تربية زيد الشهيد على كل تلك الصفات ، فليس إلا لأبيه الإمام الطاهر زين العابدين ، وإلا لأخيه الإمام الباقر عليهما السلام ، اللذين علماه الإسلام بما فيه من تعاليم الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ودرساه التاريخ بما فيه ‹ صفحة 130 › بطولات جده علي أمير المؤمنين عليه السلام وذكراه بثارات جده الحسين عليه السلام ، وزقاه المجد والكرامة ، ولقناه الإباء والحرية ( 1 ) . واستلهم - هو - من حياة أبيه وأخيه ، وسيرتهم الحميدة والأصيلة ، ونضالهم الصامت والناطق سنن التضحية والفداء ، حتى جعل في مقدمة أهداف ثورته العظيمة : الطلب بثارات الحسين عليه السلام في كربلاء ( 2 ) . 2 - إن ثورة زيد بن علي عليه السلام هي الثمرة اليانعة للجهود السياسية التي بذلها الإمام زين العابدين ، طول فترة إمامته ، فهو الذي تمكن بتخطيطه الدقيق من استعادة القوى ، وتهيئة النفوس ، لمثل حركة ابنه الشهيد ، وإن صح التعبير فهو الذي جيش لابنه زيد ذلك الجيش المسلح ، الذي فاجأ الظالمين ، وزعزع ثقتهم بالحكم الظالم . فلم يكن الجيش الذي كان مع زيد وليد ساعته ، أو يومه ، أو شهره ، أو سنته ، مع تلك المقاومة الباسلة التي أبداها أصحابه وأنصاره ( 3 ) . 3 - ويكفي زيد بن علي عليه السلام عظمة أنه ضحى بنفسه في سبيل تعزيز مواقع الأئمة الطاهرين من أهل البيت عليهم السلام ، فقد كشف للأمويين الطغاة ، في فترة حساسة من تاريخ حكمهم ، أن أهل البيت : لا يزالون موجودين في الساحة ، ولديهم القدرة الكافية على التحرك في أي موقع زمني ، وأي موضع من البلاد ، وهذا ما جعل الأمويين ي

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 125 › ( 1 ) الكافي ( 8 : 14 - 17 ) الأمالي للمفيد ( ص 200 - 204 ) وفيه : قال أبو حمزة الثمالي - راوي هذا الكتاب : ( قرأت صحيفة فيها كلام زهد من كلام علي بن الحسين عليه السلام ، فكتبت ما فيها ، وأتيته به ، فعرضته عليه فعرفه وصححه ) وأمالي الطوسي ( 1 : 4 - 127 ) ورواه في تحف العقول ( 252 - 255 ) . ‹ هامش ص 126 › ( 1 ) الصحيفة السجادية ، الدعاء ( 47 ) ليوم عرفة . ‹ هامش ص 127 › ( 1 ) بلاغة علي بن الحسين عليه السلام ( ص 50 ) . ( 2 ) بحار الأنوار ( 67 - 197 ) . ( 3 ) اختيار معرفة الرجال ( رجال الكشي ) ( ص 123 ) رقم ( 194 ) . ( 4 ) معجم رجال الحديث ( 20 : 42 ) . ( 5 ) تاريخ أهل البيت : ( ص 48 ) ‹ هامش ص 128 › ( 1 ) الكافي ، الأصول ( 2 : 281 ) باب مجالسة أهل المعاصي ( ح 16 ) ( 2 ) الاختصاص ( ص 64 ) ورواه الخصيبي في ( الأبواب ) بزيادة قوله : ( حتى تؤمنوا بالله وحده ) فلاحظ الباب ( 5 ) ص ( 124 : ألف ) . ( 3 ) رجال الكشي ( ص 123 ) رقم ( 194 ) . ( 4 ) انظر رجال الكشي ( ص 119 ) رقم ( 190 ) بحار الأنوار ( 46 : 136 ) ومروج الذهب ( 3 : 173 ) والإمامة والسياسة ( 2 : 51 ) والاختصاص ( ص 205 ) . ( 5 ) أيام العرب في الإسلام ( ص 478 ) . ( 6 ) لاحظ تراجم هؤلاء في كتب رجال الحديث عند الشيعة الإمامية وغيرهم وانظر عوالم العلوم ( ص 279 ) . ( 7 ) رسالة أبي غالب الزراري ( ص 190 ) الفقرة ( 4 ) . ‹ هامش ص 129 › ( 1 ) الإرشاد للمفيد ( ص 269 ) . ( 2 ) الإرشاد للمفيد ( ص 269 ) . ( 3 ) حياة الإمام محمد الباقر ( 1 : ) . ( 4 ) الإرشاد للمفيد ( 268 ) ‹ هامش ص 130 › ( 1 ) تعلم زيد على أبيه وعلى أخيه الباقر عليهما السلام انظر : طبقات ابن سعد ( 5 : 240 ) وتاريخ ابن عساكر ( تهذيب بدران ) ( 6 : 19 ) وانظر : ثورة زيد لناجي حسن ( ص 28 و 32 ) . ( 2 ) الإرشاد للمفيد ( 268 ) وانظر الفرق بين الفرق ، للبغدادي ( ص 35 ) . ( 3 ) لاحظ ثورة زيد لناجي حسن ( ص 98 ) . ( 4 ) نقله الإمام الهادي في المجموعة الفاخرة ( ص 220 ) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 130 - 137
يهابون الأئمة عليهم السلام ويعدونهم المعارضين الأقوياء ، المدافعين عن هذا الدين ، برغم جسامة التضحيات التي كانوا يقدمونها ، وأبان الشهيد زيد لكل الظالمين أن أهل البيت عليهم السلام لا يسكتون عمن يعتدي على كرامة الإسلام ، مهما كلف الثمن . وبهذا يفسر قوله لابن أخيه الصادق جعفر بن محمد - لما أراد الخروج إلى الكوفة - : أو ما علمت يا بن أخي أن قائمنا لقاعدنا ، وقاعدنا لقائمنا ، فإذا خرجت أنا وأنت ، فمن يخلفنا في حرمنا ؟ ( 4 ) ‹ صفحة 131 › 4 - إن قيام الشهيد زيد بن علي عليه السلام ، بحركته خارج حدود المدينة صرف أنظار الحكام عن قطب رحى الدين ، ومحور فلك الإمامة والقيادة ، وهم الأئمة القائمون في المدينة المنورة ، بحيث تمكن الإمام الصادق جعفر بن محمد عليه السلام من أداء دوره القيادي ، مستفيدا من كل الأجواء الإيجابية التي خلقتها ثورة عمه الشهيد زيد بن علي عليه السلام ، لينشر علوم آل محمد الحقة ، ويربي الجيل الإسلامي المؤمن . وكفى ذلك عظمة ومجدا وهدفا ساميا . 5 - وكان من ثمرات ثورة زيد بن علي عليه السلام أنه أثبت للأمة صدق الدعوى التي يرفع رايتها أئمة أهل البيت ، في الدفاع عن هذا الدين والنضال من أجله ، فهذه التضحيات الكبرى أوضح شاهد على ذلك . وكان ذلك تعزيزا عمليا لمواقع أهل البيت عليهم السلام في أوساط الأمة الإسلامية ( 1 ) . ‹ صفحة 132 › ثانيا : في مجال الإصلاح وشؤون الدولة إن كان الإصلاح من أبرز ما يقصده الأنبياء والأئمة عليهم السلام ، لأن مهمتهم إنما جعلت في الأرض لدفع الفساد عنها بهداية الخلق إلى ما هو صالح لهم ، وقطع دابر المفسدين . فإن كان هذا هو الحق : فإن الإمام زين العابدين عليه السلام لم يتخل عن موقعه الإلهي ، كقائد للأمة الإسلامية ، ومصلح للمجتمع الإسلامي ، وقد تبلور في ساحة العمل الاجتماعي ، في كل زواياها وأطرافها ، وأبرزها المطالبة بإصلاح جهاز الحكم . إن أقصى ما يريد أن يبعده المؤرخون المحدثون عن حياة الإمام زين العابدين هو العمل السياسي ، والتعرض للجهاز الحاكم ، والتطلع إلى إصلاح الدولة ، فيحاولون الإيحاء - بعبارات شتى - أن الإمام عليه السلام لم يكن سياسيا ، وكان بعيدا عن التورط في ما يمس قضايا السياسة من قريب أو بعيد ، وأنه انزوى متعبدا بالصلاة والدعاء والاعتكاف ! ومع اعتقادنا أن مزاولات الإمام الدينية - كلها من صميم العمل السياسي ، وخصوصا في عصره ، إذ لم يسمع نغم الفصل بين السياسة والدين ، بعد ! فمع ذلك : نجد في طيات حياة الإمام زين العابدين عليه السلام عينات واضحة ، من التدخلات السياسية الصريحة . فهو في ما يلي من النصوص المنقولة عنه ، يبدو رجلا مشرفا على الساحة السياسية ، فهو يدخل في محاورات حادة ، ويتابع مجريات الأحداث ، ويدلي بتصريحات خطرة بشأن الأوضاع الفاسدة التي تعيشها الأمة ، وهو ينميها - بكل صراحة - إلى فساد الدولة . 1 - قال عبد الله بن حسن بن حسين : كان علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب يجلس كل ليلة ، هو ، وعروة بن الزبير ، في مؤخر مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ! بعد العشاء الآخرة ، فكنت أجلس معهما ، فتحدثا ليلة ، فذكرا جور من جار من بني أمية ، والمقام معهم ، وهما لا يستطيعان تغيير ذلك ! ثم ذكرا ما يخافان من عقوبة الله لهم ! ‹ صفحة 133 › فقال عروة لعلي : يا علي ، إن من اعتزل أهل الجور ، والله يعلم منه سخطه لأعمالهم ، فكان منهم على ميل ثم أصابتهم عقوبة الله رجي له أن يسلم مما أصابهم . قال : فخرج عروة ، فسكن العقيق . قال عبد الله بن حسن : وخرجت أنا فنزلت سويقة ( 1 ) . أما الإمام زين العابدين فلم يخرج ، بل : آثر البقاء في المدينة طوال حياته ( 2 ) لأنه يعد مثل هذا الخروج فرارا من الزحف السياسي ، وإخلاءا للساحة الاجتماعية للظالمين ، يجولون فيها ويصولون . وما أعجب ما في النص من قوله : ( يجلسون كل ليلة . . . في مسجد الرسول ) وكأنه اجتماع منظم ، ولا ريب أن فيه تحديا صارخا للنظام يقوم به الإمام زين العابدين عليه السلام . ولعل اقتراح عروة بن الزبير - وهو من أعداء أهل البيت عليهم السلام - ( 3 ) كان تدبيرا سياسيا منه ، أو من قبل الحكام ، ومحاولة لإبعاد الإمام عليه السلام عن الحضور في الساحة الاجتماعية ، لكنه عليه السلام لم يخرج ، وظل يداوم مسيرته النضالية . 2 - وفي حديث آخر : قال الإمام زين العابدين عليه السلام : إن للحمق دولة على العقل ، وللمنكر دولة على المعروف ، وللشر دولة على الخير ، وللجهل دولة على الحلم ، وللجزع دولة على الصبر ، وللخرق دولة على الرفق ، وللبؤس دولة على الخصب ، وللشدة دولة على الرخاء ، وللرغبة دولة على الزهد ، وللبيوت الخبيثة دولة على بيوتات الشرف ، وللأرض السبخة دولة على الأرض العذبة . فنعوذ بالله من تلك الدول ، ومن الحياة في النقمات ( 4 ) . وإذا كانت ( الدولة ) - في اللسان العربي - هي : الغلبة والاستيلاء ، وهي من أبرز مقومات ( السلطة الحاكمة ) فإن الإمام عليه السلام يكون قد أدرج قضية السلطة السياسية ‹ صفحة 134 › في سائر القضايا الحيوية ، والطبيعية ، التي يهتم بها ، ويفكر في إصلاحها ، ويحاول رفع مشكلاتها التي تستولي على الإنسان ، من اقتصادية ، وثقافية ، ونفسية ، ودينية . فمن - يا ترى - يعني الإمام عليه السلام بالبيوتات الخبيثة التي لها السلطان على الأشراف ، في عصر الإمام عليه السلام ؟ ! ومن هي البيوتات الشريفة المغلوبة في عصره عليه السلام ؟ ! وهل التعوذ بالله من دولة السلطان ، يعني أمرا غير رفض وجوده ، واستنكار سلطته ؟ ! وهل لسياسي آخر حضور أقوى من هذا ، في مثل ظروف الإمام عليه السلام وموقعه ، وضمن تخطيطه الشامل لحل المشاكل ؟ وأخيرا هل يصدر مثل هذا من رجل ادعي : أنه ابتعد عن السياسة ، أو اعتزلها ! ؟ ‹ صفحة 135 › ثالثا : في مجال مقاومة الفساد وإذا كان من أهم واجبات المصلح ، وخاصة الإلهي ، مقاومة الفساد ، ومحاربة المفسدين في الأرض ، فإن الإمام زين العابدين عليه السلام قام بدور بارز في أداء هذا المهم . وقد تميز عصر الإمام عليه السلام ، بمشاكل اجتماعية من نوع خاص ، وقد تكون موجودة في كثير من الأوقات ، إلا أن بروزها في عصره كان واضحا ، ومكثفا ، كما أن الإمام زين العابدين قام بمعالجتها بأسلوبه الخاص ، مما أعطاها صبغة فريدة ، تميزت في نضال الإمام عليه السلام ، أهمها : 1 - مشكلة العصبية ، والعنصرية . 2 - مشكلة الفقر العام . 3 - مشكلة الرق والعبيد . ولنبحث عن كل واحدة ، وموقف الإمام عليه السلام في معالجتها : 1 - مقاومة العصبية والعنصرية : إن الأمويين - بعد إحكام قبضتهم على الحكم - اعتمدوا سياسة التفرقة العنصرية بين طوائف الأمة ، والعصبية القبلية بين مختلف طبقاتها ، محاولين بذلك تفتيت المجتمع الإسلامي ، وتقطيع أواصر الوحدة بين أفراد الأمة الإسلامية ، تلك الوحدة التي شرعها الله بقوله تعالى : * ( إن هذه أمتكم أمة واحدة * وأنا ربكم فاعبدون ) * [ سورة الأنبياء : ( 21 ) الآية : 92 ] . ودفعا لها على التفرق الذي نهى عنه الله بقوله تعالى : * ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) * [ سورة آل عمران : ( 3 ) الآية : 103 ] . حتى وصل الأمر إلى : أنه تتابع فخر النزارية على اليمنية ، وفخر اليمنية على النزارية ، حتى تخربت البلاد ، وثارت العصبية في البدو والحضر - كما يقول المسعودي - ( 1 ) . ‹ صفحة 136 › وقال ابن خلدون : إن عصبية الجاهلية نسيت في أول الإسلام ، ثم عادت كما كانت ، في زمن خروج الحسين عليه السلام عصبية مضر لبني أمية كما كانت لهم قبل الإسلام ( 1 ) . فقاموا بأعمال تسير على هذه السياسة الخارجة عن حدود الدين والشرع ، مثل تأمير العرب ، وتقديم العربي ولو كان خاملا على الكفوئين من غير العرب ، والسعي في تعريب كل شرائح وأجهزة الدولة ، بتنصيب العرب في مناصب الديوان ، والقضاء ، وحتى الفقه . وتجاوزوا كل الأحكام الشرعية في التزامهم بأساليب الحياة العربية الجاهلية ، فتوغلوا في اللهو والاستهتار بالمحرمات ، والظلم ، والقتل ، حتى تجاوزوا أعرافا عربية سائدة بين العرب قبل الإسلام ، فخانوا العهد ، وأخفروا الذمة ، وهتكوا العرض ( 2 ) . ولقد بلغت تعدياتهم أن كان معاوية : يعتبر الناس العرب ، ويعتبر الموالي شبه الناس ( 3 ) ! وقد استغل الجاهلون هذا الوضع ، فكان العرب لا يزوجون الموالي ( 4 ) . وجاء في بعض المصادر أن حاكم البصرة - بلال بن أبي بردة - ضرب شخصا من الموالي ، لأنه تزوج امرأة عربية ( 5 ) . ووصلت عدوى هذا المرض إلى علماء البلاط أيضا فاتبعوا سياسة الأسياد ، فقد وجهت إلى الزهري تهمة أنه لا يروي الحديث عن الموالي ، فسئل عن ذلك ؟ فاعترف به ( 6 ) . ‹ صفحة 137 › قال أحمد أمين المصري : لم يكن الحكم الأموي حكما إسلاميا يسوى فيه بين الناس ، ويكافأ فيه المحسن عربيا كان أو مولى ، ويعاقب من أجرم عربيا كان أم مولى ، ولم تكن الخدمة للرعية على السواء ، وإنما كان الحكم عربيا ، والحكام فيه خدمة للعرب على حساب غيرهم ، وكانت تسود العرب فيه النزعة الجاهلية ، لا النزعة الإسلامية ( 1 ) . ولقد قاوم الإمام زين العابدين عليه السلام هذه الردة الاجتماعية عن الإسلام بكل قوة ، وتمكن - بحكم موقعه الاجتماعي ، وأصالته النسبية - أن يقتحم على بني أمية ، بلا رادع أو حرج . قال الدكتور صبحي : في ما كان الأمويون يقيمون ملكهم على العصبية العربية عامة ، كان زين العابدين عليه السلام يشيع نوعا من الديمقراطية الاجتماعية ( 2 ) بالرغم مما يجري في عروقه من دم أصيل ، أبا وأما ، وقد أقدم على ما زعزع التركيب الاجتماعي للمجتمع الإسلامي الذي أراد له الأمويون أن يقوم على العصبية ( 3 ) . وقد قاوم الإمام زين العابدين عليه السلام ذلك ، نظريا بما قدمه من تصريحات ، وعمليا بما أقدم عليه من مواقف : فكان يقول : لا يفخر أحد على أحد ، فإنكم عبيد ، والمولى واحد ( 4 ) . وكان يجال
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 130 › ( 1 ) تعلم زيد على أبيه وعلى أخيه الباقر عليهما السلام انظر : طبقات ابن سعد ( 5 : 240 ) وتاريخ ابن عساكر ( تهذيب بدران ) ( 6 : 19 ) وانظر : ثورة زيد لناجي حسن ( ص 28 و 32 ) . ( 2 ) الإرشاد للمفيد ( 268 ) وانظر الفرق بين الفرق ، للبغدادي ( ص 35 ) . ( 3 ) لاحظ ثورة زيد لناجي حسن ( ص 98 ) . ( 4 ) نقله الإمام الهادي في المجموعة الفاخرة ( ص 220 ) . ‹ هامش ص 131 › ( 1 ) إقرأ مفصلا عن زيد الشهيد وأخباره في عوالم العلوم ( ص 219 ) وما بعدها من الجزء الخاص بترجمة الإمام السجاد عليه السلام . ‹ هامش ص 133 › ( 1 ) تاريخ دمشق ومختصره لابن منظور ( 17 : 21 ) . ( 2 ) جهاد الشيعة ، لليثي ( ص 29 ) . ( 3 ) لاحظ تنقيح المقال ( 2 : 251 ) . ( 4 ) تاريخ دمشق ( الحديث 142 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 255 ) . ‹ هامش ص 135 › ( 1 ) مروج الذهب ( 2 : 197 ) . ‹ هامش ص 136 › ( 1 ) نقله على جلال في كتاب : الحسين عليه السلام ( 2 : 188 ) . ( 2 ) لاحظ : ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ، لأبي الحسن الندوي . واقرأ ثورة زيد ( ص 77 وما بعدها ) . ( 3 ) تاريخ دمشق ، مختصر ابن منظور ( 17 : 284 ) . ( 4 ) وسائل الشيعة ، كتاب النكاح ، الباب ( 26 ) الحديث ( 4 ) تسلسل ( 25060 ) ولاحظ العقد الفريد ، للأندلسي ( 3 : 360 - 364 ) . ( 5 ) لاحظ : طبقات ابن سعد ( 7 : 26 ق 2 ) . وانظر تهذيب الكمال ، للمزي ( 4 / 272 ) . ( 6 ) المحدث الفاصل ، للرامهرمزي ( ص 409 ) رقم ( 431 ) والجامع لأخلاق الراوي ، للخطيب ( 1 / 192 ) . ‹ هامش ص 137 › ( 1 ) ضحى الإسلام ( 1 : 187 ) . ( 2 ) يلاحظ أن هذا الكاتب نفسه يقول عن الإمام : ( لكن الإقبال على الله ، واعتزال شؤون العالم . . كان منهجه في حياته الخاصة ) وقد سبق كلامه في المقدمة ( ص 10 - 11 ) . ( 3 ) نظرية الإمامة ، للدكتور صبحي ( ص 6 - 257 ) ( 4 ) بلاغة علي بن الحسين عليه السلام ( ص 217 ) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 137 - 143
لس مولى لآل عمر بن الخطاب ، فقال له رجل من قريش - هو نافع بن جبير - : أنت سيد الناس ، وأفضلهم ، تذهب إلى هذا العبد وتجلس معه ؟ ! ‹ صفحة 138 › فقال عليه السلام : أءتي من أنتفع بمجالسته في ديني ( 1 ) أو قال : إنما يجلس الرجل حيث ينتفع ( 2 ) . ومن المعلوم أن ما ينتفع به الإمام عليه السلام من هذا المولى ليس إلا بنفس المجالسة ، فإن هذه المجالسة تحقق للإمام غرضه السياسي من إعلان معارضته لسياسة بني أمية المبتنية على طرد الموالي وعدم احترامهم ، فإذا جالسه الإمام زين العابدين عليه السلام - وهو من لا ينكر شرفه نسبا وحسبا - فإن ذلك نسف لتلك السياسة التي تبنتها الدولة ورجالها ! وقال له طاوس اليماني - وقد رآه يجزع ويناجي ربه بلهفة - : يا بن رسول الله ، ما هذا الجزع والفزع ، . . . ، وأبوك الحسين بن علي ، وأمك فاطمة الزهراء ، وجدك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ ! فالتفت الإمام عليه السلام إليه وقال : هيهات ، هيهات ، يا طاوس ، دع عني حديث أبي ، وأمي ، وجدي ، خلق الله الجنة لمن أطاعه وأحسن ، ولو كان عبدا حبشيا ، وخلق النار لمن عصاه ، ولو كان ولدا قرشيا ، أما سمعت قوله تعالى : * ( فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ) * . [ سورة المؤمنون ( 23 ) الآية : 101 ] . والله ، لا ينفعك - غدا - إلا تقدمة تقدمها من عمل صالح ( 3 ) وأعتق الإمام زين العابدين عليه السلام مولاة له ، ثم تزوجها ، فبلغ ذلك عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي ، فعدها تحديا لعرف السلطة الحاكمة ، فكتب إلى الإمام يحاسبه ويعاتبه على ذلك ، ومما جاء في كتابه : ( إنك علمت أن في أكفائك من قريش من تتمجد به في الصهر ، وتستنجبه في الولد ، فلا لنفسك نظرت ، ولا على ولدك أبقيت . . . ) . وهذا كلام - مع أنه ينم عن التعزي بعزاء الجاهلية في عنصريتها وغرورها - فهو تعريض بالإمام عليه السلام أنه ليس بحكيم ، وأنه بحاجة إلى أن يتمجد بمصاهرة واحد من ‹ صفحة 139 › قريش ، وأن ولده لا ينجب إلا بمثل ذلك ، متغافلا عن أن الإمام عليه السلام بنفسه هو مصدر الحكمة والمجد والنجابة . فأجابه الإمام زين العابدين عليه السلام بكتاب ، جاء فيه : ( أما بعد : فقد بلغني كتابك ، تعنفني فيه بتزويجي مولاتي ، وتزعم : ( أنه كان في قريش من أتمجد به في الصهر ، وأستنجبه في الولد ) . وإنه ليس فوق رسول الله مرتقى في مجد ، ولا مستزاد في كرم . وكانت هذه الجارية ملك يميني ، خرجت مني إرادة لله عز وجل بأمر ألتمس فيه ثوابه ، ثم ارتجعتها على سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . ومن كان زكيا في دين الله تعالى فليس يخل به شي من أمره . وقد رفع الله بالإسلام الخسيسة ، وتمم به النقيصة ، وأذهب به اللؤم ، فلا لؤم على امرئ مسلم ، وإنما اللؤم لؤم الجاهلية . والسلام ) ( 1 ) . وقد عرض الإمام عليه السلام في هذا الكتاب بأن ما يقوم به حكام بني أمية من تبني العصبية هو مخالف للإسلام ولسنة الرسول ، بل قلب عليه كل الموازين التي اعتمدها في كتابه إلى الإمام ، وجعل العتاب مردودا عليه ، والنقص والعار واردا على الجاهلية التي يتبجح بها من خلال العصبية . وقال عليه السلام : لا حسب لقرشي ، ولا عربي إلا بالتواضع ، ولا كرم إلا بالتقوى ، ولا عمل إلا بالنية ، ولا عبادة إلا بالتفقه ، ألا وإن أبغض الناس إلى الله من يقتدي بسنة إمام ، ولا يقتدي بأعماله ( 2 ) . وقال عليه السلام : العصبية التي يأثم صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين ، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ، ولكن من العصبية أن يعين قومه ‹ صفحة 140 › على الظلم ( 1 ) . وهذا حسم قيم في هذا المجال ، حيث أن الميل إلى العصبة والقبيلة أمر طبيعي ، جرت عليه العادة ، فإذا كان على أساس الحب والولاء فهو أمر جيد ، لكن إذا كان على أساس المحاباة ، وظلم الآخرين وعلى حساب حقوق الأباعد ، أو كان من باب إعانة الظالم ، فهذا هو المردود في الإسلام . والذي يدعيه أصحاب النعرات العنصرية ، وأهل الغرور والجهل ، الفارغين من القيم ، كبني أمية ، هو النوع الثاني . إن هذه التصريحات ، وتلك المواقف ، بقدر ما كانت مثيرة للسلطة المتبنية لسياسة العصبية والعنصرية ، حتى أثارت أحاسيس الملك نفسه ، فهي في الوقت ذاته كانت منيرة للدرب أمام الأمة الإسلامية بكل طوائفها وأجناسها وألوانها وشعوبها وقبائلها ، تلك المغلوبة على أمرها ، تفتح أمامها أبواب الأمل بالإسلام ورجاله المخلصين ، الذين يقود مسيرتهم في ذلك العصر الإمام زين العابدين عليه السلام . 2 - ضد الفقر : من المشاكل الاجتماعية الخطيرة ، التي يستغلها الحكام لإحكام سيطرتهم على الأمة هي مشكلة الفقر والعوز والحاجة إلى المال ، فإن السلطات تحاول اتباع سياسة التجويع من جهة ، لإخضاع الناس وترغيبهم في العمل مع السلطات ، وثم سياسة التطميع والتمويل من جهة أخرى ، لتعويد الناس على الترف وزجهم في الجرائم والآثام . وهم بهذه السياسة يسيطرون على عصب الحياة في البلاد ، وهو المال ، يستفيدون منه في القضاء على من لا يرضى بهم ، وفي جذب من يرضون به من ضعفاء النفوس أمام هذه المادة المغرية . وقد ركن معاوية إلى هذه السياسة في بداية سيطرته على البلاد ، فأوعز إلى ولاته في جميع الأمصار : انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب عليا وأهل بيته فامحوه من ‹ صفحة 141 › الديوان ، وأسقطوا عطاءه ورزقه ( 1 ) . ولا ريب في أن رفع المستوى المعيشي لدى أفراد الأمة هو واحد من أهم الأهداف المرسومة لأية محاولة ثورية ، أو عمل إصلاحي ، حتى لو لم تكن دينية ، فكيف بها إذا كانت إلاهية ، يقودها شخص الإمام العادل ؟ ! إن التحرك للإصلاح ، والناس في بؤس وتخلف اقتصادي ، سوف يكلفهم الكثير الذي قد يعجزون عنه ، ولو تمكن قائد ما أن يرفع من المستوى الاقتصادي للأمة ، فهم يكونون في حالة أفضل لتقبل أطروحة الإصلاح ، ويكون أوكد على صمودهم أمام الضغوط التي تفرض عليهم من قبل الظالمين والمعتدين . ثم إن السعي في هذا المجال ، والمال حاجة يومية لكل أحد ، أوكد في تعميق الصلة بين القيادة والقاعدة ، من حيث تحسس القيادة لأمس الحاجات ، وأكثرها ضرورة وأسرعها نفعا ، فتكون دليلا على حقانية سائر الأهداف التي تعلن للخطة الإصلاحية ولقد
















الشيخ حسن العبد الله 12-24-2010 10:03 PM


كان الإمام زين العابدين عليه السلام يزاول عملية تموين الناس بدقة فائقة ، خاصة عوائل الشهداء والمنكوبين في معارك ضد الدولة ، يقوم بذلك في سرية تامة ، حتى خفيت - في بعض الحالات - على أقرب الناس إليه عليه السلام . والأهم من ذلك : أن الفقراء أنفسهم لم يطلعوا على أن الشخص الممون لهم هو الإمام زين العابدين عليه السلام إلا بعد وفاته ، وانقطاع أعطياته ! فعن أبي حمزة الثمالي : إن علي بن الحسين عليه السلام كان يحمل الخبز بالليل ، على ظهره ، يتبع به المساكين في ظلمة الليل ، ويقول : ( إن الصدقة في سواد الليل تطفئ غضب الرب ) ( 2 ) . وعن محمد بن إسحاق ، قال : كان ناس من أهل المدينة يعيشون ، لا يدرون من أين كان معاشهم ، فلما مات علي بن الحسين عليه السلام فقدوا ما كان يؤتون به بالليل ( 3 ) ‹ صفحة 142 › وعن عمرو بن ثابت ، قال : لما مات علي بن الحسين عليه السلام وجدوا بظهره أثرا ، فسألوا عنه ؟ فقالوا : هذا مما كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل ( 1 ) . وهذه الدقة في السرية كانت من أجل إلهاء عيون الدولة عن مواقفه . مع أن الهدف الأساسي من هذا العمل - وهو تمويل الناس وتموينهم - كان يتحقق بتلك الطريقة الهادئة . ومع أن معرفة الناس للأمر - ولو بعد حين - كان أوقع في النفوس وأكثر تأثيرا في حب الناس لأهل البيت عليهم السلام . ومع ما في ذلك من البعد عن الرياء ، والسمعة ، والمباهاة . وقد وصلت سرية عمله عليه السلام إلى حد أنه كان يتهم بالبخل : قال شيبة بن نعامة : كان علي بن الحسين يبخل ، فلما مات وجدوه يعول مائة أهل بيت بالمدينة ( 2 ) . وقال ابن عائشة ، عن أبيه ، عن عمه : قال أهل المدينة : ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي بن الحسين ( 2 ) . وهذا واحد من أساليب عمله في رفع هذه المشكلة ، وقد اتبع أساليب أخرى ، نقرأ عنها الأحاديث التالية : إنه عليه السلام كان يعتبر المشكلة الاقتصادية محنة كبيرة أن يجد الفقر متفشيا في الدولة الإسلامية ، وهي السعة بحيث لا يمكن معالجتها بسهولة : ففي الحديث : شكا إليه عليه السلام بعض أصحابه دينا ، فبكى الإمام عليه السلام فلما سئل عن سبب بكائه ؟ قال عليه السلام : وهل البكاء إلا للمحن الكبار ! ؟ وأي محنة أكبر من أن يرى الإنسان أخاه المؤمن في حاجة لا يتمكن من قضائها ، وفي فاقة لا يطيق دفعها ( 4 ) . وأسلوب آخر في التركيز على مقاومة المشكلة : ‹ صفحة 143 › عن الرضا عن أبيه ، عن جده عليهم السلام ، قال : قال علي بن الحسين : إني لأستحيي من الله عز وجل أن أرى الأخ من إخواني ، فأسأل الله له الجنة ، وأبخل عليه بالدنيا ، فإذا كان يوم القيامة قيل لي : ( لو كانت الجنة بيدك لكنت بها أبخل وأبخل وأبخل ) ( 1 ) . إنه رفع لمستوى مقاومة المشكلة إلى مستوى مثالي رائع ، وخطاب موجه إلى كل من يعمل في الدنيا على حساب نعيم الآخرة ، لا على معطياتها الدنيوية فقط ، إنه معنى عرفاني دقيق ، ورفيع ، وبديع . وأسلوب آخر ، يدل على إصرار الإمام عليه السلام لتجاوز المشكلة : قال عمرو بن دينار : دخل علي بن الحسين على محمد بن أسامة بن زيد ، في مرضه ، فجعل محمد يبكي ، فقال : ما شأنك ؟ قال محمد : علي دين . قال : كم هو ؟ قال : خمسة عشر ألف دينار - أو بضعة عشر ألف دينار - . قال الإمام : فهي علي ( 2 ) . وقد جاء في الحديث أن الإمام عليه السلام قاسم الله تعالى ماله مرتين ( 3 ) . هذا من جهة . ومن جهة أخرى : نجد الإمام عليه السلام يؤكد على تداول الثروة ويحث على تنميتها ، واستثمار الأموال ، وعدم تجميدها ، لأن تجميدها هو التكنيز المذموم ، للخسارة الواضحة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 137 › ( 1 ) ضحى الإسلام ( 1 : 187 ) . ( 2 ) يلاحظ أن هذا الكاتب نفسه يقول عن الإمام : ( لكن الإقبال على الله ، واعتزال شؤون العالم . . كان منهجه في حياته الخاصة ) وقد سبق كلامه في المقدمة ( ص 10 - 11 ) . ( 3 ) نظرية الإمامة ، للدكتور صبحي ( ص 6 - 257 ) ( 4 ) بلاغة علي بن الحسين عليه السلام ( ص 217 ) . ‹ هامش ص 138 › ( 1 ) سير أعلام النبلاء ( 4 : 388 ) وانظر حلية الأولياء ( 3 : 137 ) وصفوة الصفوة ( 2 : 98 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث 30 ) ومختصر ابن منظور ( 17 : 233 ) وطبقات ابن سعد ( 5 : 216 ) . ( 3 ) مناقب ابن شهرآشوب ( 3 : 291 ) كشف الغمة ( 4 : 151 ) بحار الأنوار ( 46 : 82 ) ونقل عن مجالس ثعلب ( 2 : 462 ) . ‹ هامش ص 139 › ( 1 ) الكافي ، الفروع ( 5 : 344 ) . ( 2 ) تحف العقول ( ص 28 ) . ‹ هامش ص 140 › ( 1 ) بلاغة علي بن الحسين ( ص 203 ) . ‹ هامش ص 141 › ( 1 ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ( 11 : 45 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث 76 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 238 ) . ( 3 ) تاريخ دمشق ( الحديث 77 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 238 ) . ‹ هامش ص 142 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 79 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 238 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث 80 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 239 ) . ( 3 ) حلية الأولياء ( 3 : 361 ) ، تاريخ دمشق ( الحديث 81 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 239 ) ، وسير أعلام النبلاء ( 4 : 393 ) . ( 4 ) أمالي الصدوق ( ص 367 ) ونقله في عوالم العلوم ( ص 29 ) في حديث طويل . ‹ هامش ص 143 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 84 ) ومختصر ابن منظور ( 17 : 239 ) وتهذيب التهذيب ( 7 : 306 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث : 83 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 239 ) . ( 3 ) تاريخ دمشق ( الحديث 75 ) . ( 4 ) تحف العقول ( ص 283 ) . ( 5 ) في هامش المصدر السابق .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 143 - 149
يها ، ولاحتمال سقوط القيمة الشرائية لها ، وتسبيبها لعدم ازدهار السوق الإسلامية ، بينما تداولها يؤدي إلى نقيض كل ذلك . فقد قال الإمام عليه السلام : استنماء المال تمام المروءة ( 4 ) وفي نص آخر : استثمار المال ( 5 ) . وإذا قارنا هذه المواقف من الإمام عليه السلام بما كان يجري على أيدي بني أمية من ‹ صفحة 144 › البذخ والترف والإسراف والإهدار لأموال بيت المال ، ومن منع الموالين لعلي عليه السلام من الرزق والعطاء ، ومن حاجة الشخصيات مثل محمد بن أسامة بن زيد ، فضلا عن عوائل الشهداء المغضوب عليهم من قبل الدولة . لو قارنا بين الأمرين : لعلمنا - بكل وضوح - أن لأعمال الإمام عليه السلام بعدا سياسيا ، وهو الوقوف أمام استغلال السلطة للأزمة الاقتصادية عند الناس ، ومنع استدراج الظالمين لذوي الحاجة والمحنة وخاصة المنكوبين إلى مهاوي الانتماء إليها أو حتى الفساد والجريمة ، بالمال الذي استحوذت الدولة عليه ، وأن لا تطبق به سياسة التطميع بعد التجويع . 3 - ضد الرق : إن تحرير الرقيق يشكل ظاهرة بارزة في حياة الإمام زين العابدين عليه السلام بشكل ليس له مثيل في تاريخ الإمامة ، فهو أمر يسترعي الانتباه والملاحظة . وإذا دققنا في الظروف والملابسات التي عايشها الإمام ، وقمنا ببعض المقارنات بين أعمال الإمام ، والأحداث التي كانت تجري من حوله ، والظروف التي تكتنف عملية الإعتاق الواسعة التي تبناها الإمام زين العابدين عليه السلام ، تتضح الصورة الحقيقية لأهداف الإمام عليه السلام من ذلك . فيلاحظ أولا : 1 - أن أعداد الرقيق ، والعبيد ، كانت تتواتر على البلاد الإسلامية ، فكان الموالي في ازدياد بالغ مذهل ، على أثر توالي الفتوحات ( 1 ) . 2 - أن الأمويين كانوا ينتهجون سياسة التفرقة العنصرية ، فيعتبرون الموالي شبه الناس ( 2 ) . 3 - أن الجهاز الحاكم على الدولة الإسلامية ، أخذا من نفس الخليفة ، إلى جميع الأمراء وموظفي الدولة ، لا يمثل الإسلام ، بل كان كل واحد يعارض معنوياته ‹ صفحة 145 › وأخلاقه ، وإن تنادى بشهاداته واسمه . 4 - إن انتشار العبيد والموالي ، وبالكثرة الكثيرة ، ومن دون أي تحصين أخلاقي ، أو تربية إسلامية ، لأمر يؤدي - لا محالة - إلى شيوع البطالة ، والفساد ، وهو ما تركز عليه الدولة الظالمة التي تعمل في هذا الاتجاه بالذات . ويلاحظ ثانيا : 1 - أن الإمام زين العابدين عليه السلام كان يشتري العبيد والإماء ، ولكن لا يبقي أحدهم عنده أكثر من مدة سنة واحدة فقط ، وأنه كان مستغنيا عن خدمتهم ( 1 ) . فكان يعتقهم بحجج متعددة ، وبالمناسبات المختلفة . إذن ، فلماذا كان يشتريهم ؟ ولماذا كان يعتقهم ؟ 2 - إنه عليه السلام كان يعامل الموالي ، لا كعبيد أو إماء ، بل يعاملهم معاملة إنسانية مثالية ، مما يغرز في نفوسهم الأخلاق الكريمة ، ويحبب إليهم الإسلام ، وأهل البيت الذين ينتمي إليهم الإمام عليه السلام . 3 - إنه عليه السلام كان يعلم الرقيق أحكام الدين ويملؤهم بالمعارف الإسلامية ، بحيث يخرج الواحد من عنده محصنا بالعلوم التي يفيد منها في حياته ، ويدفع بها الشبهات ، ولا ينحرف عن الإسلام الصحيح . 4 - إنه عليه السلام كان يزود كل من يعتقه بما يغنيه ، فيدخل المجتمع الجديد ليزاول الأعمال الحرة ، كأي فرد من الأمة ، ولا يكون عالة على أحد . إن المقارنة بين هذه الملاحظات ، وتلك ، تعطينا بوضوح القناعة بأن الإمام كان بصدد إسقاط السياسة التي كان يزاولها الأمويون في معاملتهم مع الرقيق . إن عمل الإمام زين العابدين عليه السلام أنتج نتائج عظيمة ، هي : 1 - حرر مجموعة كبيرة من عباد الله ، وإمائه الذين وقعوا في الأسر ، وتلك حالة استثنائية غير طبيعية ، ومع أن الإسلام كان قد أقرها لأمور يعرف بعضها من خلال قراءة التاريخ ، إلا أن الشريعة قد وضعت طرقا عديدة لتخليص الرقيق وإعطائهم ‹ صفحة 146 › الحرية ، وقد استغل الإمام عليه السلام كل الظروف والمناسبات لتطبيق تلك الطرق ، وتحرير العبيد والإماء . وفي عمله تطبيق للشريعة وسننها ، كما يدل عليه الحديث التالي : فعن سعيد بن مرجانة ، قال : سمعت أبا هريرة يقول : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرب منها إربا منه من النار ، حتى أنه يعتق باليد اليد ، وبالرجل الرجل ، وبالفرج الفرج ) . فقال علي بن الحسين : أنت سمعت هذا من أبي هريرة ! قال سعيد : نعم . فقال الإمام : ادع لي - مطرفا لغلام له أفره غلمانه - فلما قام بين يديه ، قال : إذهب ، فأنت حر لوجه الله ( 1 ) . إن الإمام زين العابدين عليه السلام لا يخفى عليه ثواب عتق الرقبة ، وإنما أراد أن يؤكد على سنة العتق من خلال تقرير الراوي على سماع الحديث ! وليكون عمله قدوة للآخرين كي يقوموا بعتق ما يملكون من الرقاب . 2 - إن الرقيق المعتقين يشكلون جيلا من التلامذة الذين تربوا في بيت الإمام عليه السلام وعلى يده ، بأفضل شكل ، وعاشوا معه حياة مفعمة بالحق والمعرفة ، والصدق والإخلاص ، وبتعاليم الإسلام من عقائد وشرائع وأخلاق كريمة . فقد كانت جماعة الرقيق تحتفظ بكل ذلك في قرارات النفوس ، في شعورهم أو لا شعورهم ، وينقلونه إلى الأجيال المتعاقبة ، وفي ذلك حفظ الإسلام . ولا ريب أن الإمام زين العابدين عليه السلام لو أراد أن يفتح مدرسة لتعليم مجموعة من الناس ، فلا بد أنه كان يواجه منعا من الجهاز الحاكم ، أو عرقلة لعمله ، أو رقابة شديدة على أقل تقدير . 3 - إن الإمام عليه السلام استقطب ولاء الأعداد الكبيرة من هؤلاء الموالي المحررين ، إذ ‹ صفحة 147 › لا يزال ولاء العتق يربطهم بالإمام عليه السلام ، ولا ريب أنهم أصبحوا جيشا ، فإن عددهم بلغ - في ما قيل - خمسين ألفا ، وقيل : مائة ألف ! ( 1 ) . فعن عبد الغفار بن القاسم أبي مريم الأنصاري ، قال : كان علي بن الحسين خارجا من المسجد فلقيه رجل فسبه ! فثارت إليه العبيد والموالي ، فقال علي بن الحسين : مهلا عن الرجل ، ثم أقبل على الرجل ، فقال له : ما ستر عنك من أمرنا أكثر ، ألك حاجة نعينك عليها ؟ - فاستحيى الرجل - فألقى عليه خميصة كانت عليه ، وأمر له بألف درهم . فكان الرجل بعد ذلك يقول : أشهد أنك من أولاد الرسول ( 2 ) . وقد كان لهؤلاء العبيد موقف دفاعي آخر ، عن أهل البيت ، لما سمعوا أنباء ضغط ابن الزبير على آل أبي طالب في مكة ، وشيخهم محمد بن الحنفية عم الإمام زين العابدين عليه السلام ، في ما رواه البلاذري بسنده عن المشايخ يتحدثون : أنه لما كان من أمر ابن الحنفية ما كان ، تجمع بالمدينة ( ! ) قوم من السودان ، غضبا له ، ومراغمة لابن الزبير . فرأى ابن عمر غلاما له فيهم ، وهو شاهر سيفه ! فقال له : رباح ! قال رباح : والله ، إنا خرجنا لنردكم عن باطلكم إلى حقنا . فبكى ابن عمر ، وقال : اللهم إن هذا لذنوبنا ( 3 ) . وقال عبد العزيز سيد الأهل : وجعل الدولاب يسير ، والزمن يمر وزين العابدين يهب الحرية في كل عام ، وكل شهر ، وكل يوم ، وعند كل هفوة ، وكل خطأ ، حتى صار في المدينة جيش من الموالي الأحرار ، والجواري الحرائر ، وكلهم في ولاء زين العابدين ( 4 ) . ‹ صفحة 148 › حقا لقد تحين الإمام عليه السلام الفرص ، واهتبل حتى الزلة الصغيرة تصدر من أحد الموالي ليهب له الحرية ، فكان يكافئ الإساءة بالإحسان ليكون أعذب عند الذي يعتق ، وأركز في خلده ، فلا ينساه . إن الإمام زين العابدين عليه السلام استنفد كل وسيلة للتحرير . وإليك بعض الأحاديث عن ذلك : 1 - نادى علي بن الحسين عليه السلام مملوكه مرتين ، فلم يجبه ، ثم أجابه في الثالثة ، فقال له الإمام : يا بني ! أما سمعت صوتي ؟ قال المملوك : بلى ! قال الإمام : فما بالك لم تجبني ؟ قال المملوك : أمنتك ! قال الإمام : الحمد لله الذي جعل مملوكي يأمنني ( 1 ) . 2 - عن عبد الرزاق ، قال : جعلت جارية لعلي بن الحسين تسكب عليه الماء يتهيأ للصلاة ، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه ، فشقه ، فرفع علي بن الحسين رأسه إليها ، فقالت الجارية : إن الله عز وجل يقول : * ( والكاظمين الغيظ ) * . فقال لها : قد كظمت غيظي . قالت : * ( والعافين عن الناس ) * . فقال لها : قد عفا الله عنك . قالت : * ( والله يحب المحسنين ) * [ آل عمران ( 2 ) الآية 124 ] . قال : اذهبي ، فأنت حرة ( 2 ) . فكأن هذا الحوار كان امتحانا واختبارا ، نجحت فيه هذه الجارية ، بحفظها هذه الآية ، واستشهادها بها ، فكانت جائزتها من الإمام عليه السلام أن تعتق ! 3 - قال عبد الله بن عطاء : أذنب غلام لعلي بن الحسين ذنبا استحق منه العقوبة ، فأخذ له السوط ، فقال : * ( قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ) * ‹ صفحة 149 › . [ الجاثية ( 45 ) الآية ( 14 ] . فقال الغلام : وأما أنا كذلك ، إني لأرجو رحمة الله وأخاف عقابه . فألقى السوط ، وقال : أنت عتيق ( 1 ) . فلقد لقنه الإمام عليه السلام بقراءة الآية ، وهو يختبر معرفته بمعناها وذكاءه ، فأعتقه مكافأة لذلك . 4 - وكان عند الإمام عليه السلام قوم ، فاستعجل خادم له شواءا كان في التنور ، فأقبل به الخادم مسرعا ، وسقط السفود من يده على بني للإمام عليه السلام أسفل الدرجة ، فأصاب رأسه ، فقتله ، فوثب الإمام عليه السلام ، فلما رآه ، قال للغلام : إنك حر ، إنك لم تتعمده ، وأخذ في جهاز ابنه ( 2 ) . ولعملية الإعتاق على يد الإمام عليه السلام صور مثيرة أحيانا ، تتجاوز الحسابات المتداولة : ففي الحديث المتقدم عن سعيد بن مرجانة ، وجدنا أن الإمام عليه السلام قد أعتق غلاما اسمه ( مطرف ) وجاء في ذيل الحديث ، أن عبد الله بن جعفر الطيار كان قد أعطى الإمام زين العابدين عليه السلام بهذا الغلام ( ألف دينار ) أو ( عشرة آلاف درهم ) ( 3 ) . ففي إمكان الإمام عليه السلام أن يبيع الغلام بهذا الثمن الغالي ، ويعتق بالثمن مجموعة من الرقيق أ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹ هامش ص 143 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 84 ) ومختصر ابن منظور ( 17 : 239 ) وتهذيب التهذيب ( 7 : 306 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث : 83 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 239 ) . ( 3 ) تاريخ دمشق ( الحديث 75 ) . ( 4 ) تحف العقول ( ص 283 ) . ( 5 ) في هامش المصدر السابق . ‹ هامش ص 144 › ( 1 ) لاحظ فجر الإسلام لأحمد أمين ( ص 90 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ومختصره لابن منظور ( 17 : 284 ) . ‹ هامش ص 145 › ( 1 ) لاحظ الإقبال للسيد ابن طاوس ( ص 477 ) . ‹ هامش ص 146 › ( 1 ) أخرجه البخاري في صحيحه ( 3 : 188 ) كتاب العتق والكفارات ، ومسلم في صحيحه ( 10 : 152 ) في العتق ، والترمذي في صحيحه ( 4 : 114 ) في النذور رقم ( 1541 ) وانظر حلية الأولياء ( 3 : 136 ) . ‹ هامش ص 147 › ( 1 ) لاحظ بحار الأنوار ( 46 : 104 - 105 ) . ( 2 ) صفوة الصفوة لابن الجوزي ( 2 : 100 ) ، تاريخ دمشق ( الحديث 112 ) وكشف الغمة ( 2 / 81 ) وبحار الأنوار ( 46 / 99 ) وعوالم العلوم ( ص 115 ) . ( 3 ) أنساب الأشراف ( الجزء الثالث ) ( ص 295 ) . ( 4 ) زين العابدين ، لسيد الأهل ( ص 47 ) . ‹ هامش ص 148 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 90 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 240 ) وشرح الأخبار ( 3 : 260 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث 90 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 240 ) . ‹ هامش ص 149 › ( 1 ) تاريخ دمشق ( الحديث 113 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 244 ) . ( 2 ) تاريخ دمشق ( الحديث 118 ) مختصر ابن منظور ( 17 - 244 ) . ( 3 ) تاريخ دمشق ( الحديث 82 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 239 ) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
جهاد الإمام السجاد (ع) - السيد محمد رضا الجلالي - ص 149 - 158
أكثر من واحد ، ولكن الإصرار على إعتاق هذا الغلام بالخصوص - مع غلاء ثمنه - يحتوي على معنى أكبر من العتق : فهو تطبيق لقوله تعالى : * ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) * [ سورة آل عمران ( 3 ) الآية : 92 ] . وهو إيماء إلى أن الإنسان لا يعادل بالأثمان ، مهما غلت وعلت أرقامها ! ولعل السبب الأساسي هو : أن غلاء ثمن الغلام لا يكون إلا من أجل أدبه ، وذكائه ، وحنكته ، وقوته ، وغير ذلك مما يجعله فردا نافعا ، فإذا صار حرا ، وهو ‹ صفحة 150 › متصف بهذه الصفات ، يفيد المجتمع ككل ، فهو أفضل - عند الإمام عليه السلام - من أن يكون عبدا يستخدمه شخص واحد لأغراضه الخاصة ، مهما كانت شريفة ! وبهذا واجه الإمام زين العابدين عليه السلام مشكلة الرق ، واستفاد منها ، في صالح المجتمع والدين ( 1 ) . وبما أنه عليه السلام كان يحتل موقعا رفيعا بين الأمة الإسلامية جمعاء : إما لأنه إمام مفترض الطاعة ، عند المعتقدين بإمامته عليه السلام . أو لأنه من أفضل فقهاء عصره ، والمعترف بورعه وتقواه وعلمه ، عند الكافة . أو لأنه من سادات أهل البيت الذين يمتازون بين الناس بالطهارة والكرامة والشرف والمجد . فقد كان عمله حجة معتبرة ، وقدوة صالحة ، للمسلمين كافة ، يقتدون به في تحرير الرقيق ، ومحو العنصرية المقيتة . وبعد هذه الصور الرائعة : فهل يصح أن يقال : ( إن زين العابدين عليه السلام كان منعزلا عن السياسة ، أو مبتعدا عنها ) وهو يقوم بهذا النشاط الاجتماعي الواسع . ‹ صفحة 151 ›


الساعة الآن 02:55 AM

Powered by vBulletin™ Version 3.8.7
Copyright © 2024 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved.
Support : Bwabanoor.Com
HêĽм √ 3.1 BY:
! ωαнαм ! © 2010

Security team